جمهور أهل التفسير على أن هذه الآية أرجى آية في كتاب الله، قالوا: أضاف الله جل وعلا العباد إلى ذاته العلية، وأخبر بأنهم مسرفون في الذنوب، ثم أخبر جل وعلا بعد ذلك كله أنه يغفر لهم، وهذا من أعظم القرائن على أن هذه الآية هي أرجى آية في كتاب الله، وقد قال بعض أهل العلم: إنها آية مدنية نزلت في وحشي قاتل حمزة، فإذا كان قاتل حمزة قد غفر الله له مع أن حمزة كان أسد الله محبباً مقرباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو عمه وأخوه من الرضاعة، فإذا كان الله جل وعلا قد قبل توبته وإنابته، فما بالك بغير ذلك من الذنوب، فالله جل وعلا أرحم الرحماء، ولذلك قلنا: إنه ذو فضل، ولكنه جل وعلا حكم ذو عدل لا يظلم الناس مثقال ذره، وهذا قد ذكره الله في هذه السورة، فإن الله ذكر أهل الكفر فقال:{قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}[الزمر:٨]، ثم بين عدله جل وعلا فقال:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[الزمر:٩]، فهنا ميز جل وعلا بين المعرضين عنه والمقبلين عليه، وذكر أعظم صفات المقبلين عليه، فقال جل ذكره:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}[الزمر:٩].
فمعنى الآية إجمالاً: أن هذا الموصوف بهذه الصفة من عباد الله، وإن كان أكثر أهل العلم يقول: إنها تنطبق على عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه كما حكي ذلك عن ابن عمر وغيره، ولكنها عامه في الأمة كلها.
وهذا القنوت جاء في الآية مبهماً، ولكن السنة بينت، حيث قال صلى الله عليه وسلم -كما أخرجه الإمام أحمد في المسند والنسائي في السنن بسند صحيح من حديث تميم بن أوس الداري رضي الله عنه-: (من قرأ بمائة آية من القرآن في ليلة كتب له قنوت ليلة)، فأيما عبد أراد بقيامه بين يدي الله رحمة الله، فلا هم له إلا أن يرحمه الله، وفي نفس الوقت يتلو مخافةً من عذاب الله، فتلا مائة آية من القرآن أو يزيد في ليلة واحدة، ولو في عدة ركعات كتبه الله جل وعلا من القانتين، وهذا سياق مدح عظيم من رب العالمين تشرئب إليه الأعناق وتنقطع دونه أمور الوصال.
قال الله تعالى:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا}[الزمر:٩]، فقدم الله السجود على القيام؛ لأن العبد لا يكون في موضع هو فيه أقرب إلى الله جل وعلا من موضع السجود، فلهذا قال سبحانه:{سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}[الزمر:٩]، الذين يعلمون أن الله وحده أحق بأن يعبد، والذين لا يعلمون أن الله إله واحد، فلم يعبدوه، وإنما يعرف الفرق بين الأمرين والتفريق بين الحالين من كان ذا لب وعقل وإنصاف، ولهذا قال جل ذكره وتبارك اسمه:{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[الزمر:٩].