إن المتأمل في أخبار الكتاب والسنة يجزم بأن أصحاب القبور يسمعون ذلك، ومما يدل عليه أمور عدة: أولها: ما ثبت في الصحيحين من طرق متعددة ووجوه مختلفة من أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قتلى بدر ألقاهم في قليب، أي: في بئر مهجورة، ثم وقف عليهم بعد ثلاثة أيام فقال:(يا فلان ابن فلان! يا فلان ابن فلان! -يناديهم بأسمائهم- هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً) فأذهل هذا الأمر عمر، فقام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله! ما تخاطب من أقوام قد جيفوا، فقال:(يا عمر! والله ما أنت بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون جواباً) فأثبت لهم صلوات الله وسلامه عليه السمع، وقال:(ما أنت) أي: يا عمر (بأسمع) أي: بأشد سماعاً (لما أقول منهم)، ولكن وجه الخلاف هو أنهم لا يستطيعون جواباً.
ولا يعارض هذا قول ربنا جل جلاله في سورة فاطر:{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}[فاطر:٢٢]، فإن قول ربنا جل جلاله:{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}[فاطر:٢٢] المقصود منه والمراد منه سمع الامتثال والقبول، لا سمع الأصوات، فهم يسمعون، ولكنهم لا يسمعون سماع من يمتثل ويقبل ما تقول، ويستطيع أن يمتثل لأمرك.
ومما يدل عليه أيضاً ما ثبت في السنة الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الميت يسمع قرع نعال من يشيعه إذا انصرفوا عنه.
ومما يدل عليه أيضاً أن نبينا صلى الله عليه وسلم لما ندبنا ورغبنا في زيارة القبور علمنا ماذا نقول، فمن ضمن ما نقول:(السلام عليكم دار قوم مؤمنين) ولا ريب في أن استعمال كاف الخطاب يلزم منه -كما هو مفهوم من لغة العرب- أن يدرك من تبلغه السلام سلامك ذلك، وإلا لكان هذا السلام كالسلام على العدم المحض، وهذا أمر لا يعقل، ولا يخاطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم به، فمن ذلك يفهم أن الموتى يأنسون بمن يزورهم، ويسمعون نداء ودعاء من يأتيهم، إلا أنهم لا يملكون إجابة، ولا يستطيعون رداً على ما يقوله لهم من يسلم عليهم.