وقد حضرت إليه عساكر الملكة الشامية كعسكر دمشق مع نائبها سودون، وعسكر طرابلس مع نائبها المقرّ السيفي شيخ الخاصكي، وعسكر حماة مع نائبها دقماق، وعسكر صفد وغزّة فاختلفت آراؤهم فمن قائل: ادخلوا المدينة وقاتلوا من الأسوار، وقائل:
اخرجوا إلى ظاهر البلد تلقاء العدو بالخيام.
فلما رأى نائب حلب اختلافهم أذن للناس في إخلائها والتوجه حيث شاؤوا، وكان نعم الرأي لو فعلوا، فلم يوافقوا على ذلك وضربوا خيامهم في ظاهر البلد تلقاء العدو، وحضر قاصد تيمورلنك فقتله نائب دمشق قبل أن يسمع كلامه، وبئسما فعل. ثم إن النواب ومعهم بعض العساكر والعامة خرجوا إلى جهة بابلّي تحت مشهد الشيخ فارس، وسمع بعضهم دمرداش وهو يقول للتتر: إنا إذا حملتم أنكسر، أو كلاما مثل هذا. ولما وقف الحلبيون والتقى الجيشان قرأ ابن القلعيني قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ
الآية وكان صيّتا. واستمر القتال يوم الخميس والجمعة.
ولما كان يوم السبت حادي عشر الشهر المذكور ركب تيمور وجمع وحشد، والفيلة تقاد بين يديه وهي ثمانية وثلاثون فيلا وزحف على حلب فانخذل دمرداش وانحاز إليه سرا يعلمه المخازي، وانهزم المسلمون بين أيدي التتر وجعلوا يلقون أنفسهم من الأسوار والخنادق، والتتر في أثرهم يقتلون ويأسرون وقد أحالت العساكر بالحوافر أجساد العامة، وجرى من دخول المنهزمين بالأبواب من فساد الأجساد وذهاب المهج ما أذهب العقول.
وأما سودون نائب دمشق فإنه قاتل على باب النيرب قتالا عظيما وحمل عليه معظم جيش تيمور وهو ثابت صابر، إلا أنه لما شاهد الغلبة دخل حلب. ودخلها جيش تيمور ينهبون الأموال ويحرقون المباني ويخربونها ويقتلون الكبار والصغار ويفتضّون الأبكار، ويأخذون المرأة ومعها ولدها الصغير على يدها فيلقونه من يدها ويفسقون بها. فلجأ النساء عند ذلك إلى الجامع الكبير ظنا منهنّ أن هذا يقيهنّ من أيدي الكفرة، وصارت المرأة تطلي وجهها بطين أو بشيء يشوّه محاسنها، فيأتي ذلك العلج إليها ويغسل وجهها ويتناولها ويتمسح بالأوراق الشريفة. ودام هذا الحال من يوم السبت إلى يوم الثلاثاء. ومع ذلك فإن طائفة من عساكر التتر لم يزالوا يشتغلون بنقب القلعة وبها جميع النواب وخواص الناس وأكثر أموالهم ونفائس أمتعتهم.