ذلك وهاجوا واجتمعوا في ساحة آت ميدان وقلبوا مراجلهم أمام القشلة، وضربوا الطبول. فانزعج السلطان لذلك وأشاع بأنه كان يستعد للحج الشريف وأن العساكر التي أمر بجمعها في آسيا لم تكن إلا للمحافظة عليه في طريق الحج، وأمر بتجهيز سفن لأجل تلك الغاية. فلم يقنعهم هذا الاعتذار وقاموا قومة رجل واحد وقتلوا عددا عظيما من الحرس والحجاب وأفرجوا عن السلطان مصطفى وبايعوه وأزالوا السلطان عثمان.
وهكذا طغوا وبغوا وذاقوا لذة السلطة وحرصوا على إبقائها فيهم. وتاريخهم مدة قرنين بعد هذا العمل ليس هو إلا سلسلة متصلة مؤلفة من حلقات العصيان والتمرد والعبث بالنفوس الزكية، ثم صاروا يمتنعون عن الدخول في العسكرية إلا بالاسم ويؤذن لهم بالإقامة دائما كالمحافظين. ثم حصلوا على إذن بالتزوج والإقامة مع عيالهم، فاضطرتهم العيلة «١» إلى الدخول في التجارة والصنائع وأهملوا سيوفهم وبواريدهم ولم يبق بهم من صفات الجنود سوى المحافظة على أخذ رواتبهم في أوقاتها. ولم يكفهم ذلك حتى صاروا يأخذون مرتّبات لعيالهم، وقيدوا أسماء أولادهم في سلك الجنود الأمناء مستبدين لا يؤدون شيئا لخزينة الحكومة. وصار ينخرط في سلكهم جماهير غفيرة من الناس، وبعضهم ينفق مبالغ باهظة ليحرز شرف الانتظام في مسلكهم وأن يوشم على يده اليسرى بالوشم المتقدم ذكره، الذي كان صاحبه يستبد بجميع أعماله، صالحة كانت أم طالحة. وقد دخل في تلك الزمرة كثير من اليهود والنصارى طمعا في السلب والغنائم في أوقات العصيان. واستولى عليهم الكسل والجهل باستعمال السلاح حتى إن كثيرا منهم من يضع في البارودة الرصاص قبل البارود، وكثيرا منهم من يكون في المؤخرة ويطلق بارودته على من في المقدمة. وربما حاول قوّادهم ردعهم عن ذلك فيجيبونهم بقولهم: إن رصاصة اليكجري تعرف العدو من الصديق.
وقد انتشبت مرارا مقاتلات شديدة في أزقة القسطنطينية بينهم وبين الصباهية الذين كانوا أعداء لهم، فكانوا يطوفون في الأسواق وبين البيوت ويوسعون الناس ضربا وافتراء، ويسلبون ما صادفوه من الأمتعة ويرتكبون شرورا كثيرة ويسبون النساء والبنات من دون مانع ولا معارض. وكانت القسطنطينية بجملتها في قبضة يدهم يفعلون فيها ما يشاءون