كان محررو الجرائد من جراء هذا التدقيق المشين يتكبدون عرق القربة بتحرير صحفهم، إذ على المحرر منهم- بعد تحرير صحيفته وطبعها- أن يقدم أول نسخة منها إلى المراقب (السنسور) المعيّن، فمتى وجد فيها كلمة من الكلم التي سبق بيانها أو وجد فيها عبارة تشفّ- ولو من وراء ألف ألف حجاب- عن غمز أو لمز يقصد بهما السلطان، فإن حضرة (السنسور) لا يحجم لحظة واحدة عن تشذيب المقالة وضربها بقلمه القاسي ضربة تقضي على حياتها مهما كان موضوعها أديبا بديعا، وحينئذ يذهب تعب ذلك المحرر أدراج الرياح، ويضطر إلى تحضير مقالة بدلها ليملأ بها من جريدته ما حدث فيها من الفراغ. وبعد أن يطبعها أيضا يرفعها إلى حضرة المراقب فربما ضربها ضربة ثانية بذلك القلم الشبيه بمعول يهدم معاهد العلم وصروح الأدب، محتجا على محررها ولو بكلمة فيها حروف لفظة «عزل» مثلا كأن يقول: عزال، عزاليك، أو عزرائيل. ولا تسل حينئذ عن حال ذلك المحرر المنكود الحظ الذي قد يشتغل أسبوعا تاما بتحرير مقالة يرضي بها المراقب، وينفي فيها الشبهة الموهومة عن نفسه.
وكان المؤلفون الذين يصرفون من أعمارهم الثمينة الأعوام الطويلة في تأليف كتاب أدبي، أو علمي أو فني، مكلفين- لأجل الحصول على الرخصة في طبع مؤلفهم وتدوينه- أن يبيضوا منه نسختين يقدمونهما إلى نظارة المعارف في استانبول، وهي تدفع إحداهما إلى مراقبها الخاص فيفحصها على الصورة المتقدم ذكرها في فحص الجرائد، ولربما شذبها وضرب بقلمه المشؤوم تلك الضربات العنيفة فمحى نحو ثلث الكتاب أو نصفه، لوجود شيء في عباراته من الكلمات المتقدم ذكرها أو شيء مما يشبهها. وقد يستغرق (السنسور) في هذا العمل الذميم نحو سنة أو سنتين، وقد لا يرخص له بطبع ذلك الكتاب مطلقا بعد تلك المدة الطويلة.
وروى بعض أصدقائنا من منوّري شبان الأتراك أن بعض شياطين السلطان عبد الحميد استلفت نظره إلى ما في القرآن الكريم من الألفاظ المتقدم ذكرها، التي تنبو عن سمعه وتشذّ عن ذوقه وطبعه، فكاد السلطان يصدر أمره الكريم بتنقيح نسخة منه وتنظيفها من تلك الألفاظ وطبعها، مهذبة منقحة، غير أن بعض محبيه المخلصين بين له خطارة هذا العزم وما ينشأ عنه في العالم الإسلامي من الاضطراب فأمسك عن إصدار أمره المذكور.
وقد أسمعني ذلك الصديق أربعة أبيات باللغة التركية في هجاء مراقبي الكتب والمؤلفات