وعقاب لبنان وكيف بقطعها ... وهو الشتاء، وصيفهنّ شتاء
لبس الثلوج بها عليّ مسالكي ... فكأنها ببياضها سوداء «١»
وقد انقطع سير القوافل من سائر الجهات القاصية والدانية، فغلت الأسعار لا سيما الفحم، فقد ارتفع ثمن رطله من قرشين إلى اثني عشر قرشا وثمن رطل الحطب من قرش إلى ثلاثة قروش، فقاسى الفقراء الشدائد والأهوال من قلة القوت وفقد مادة الوقود وقام الدعّار والشطّار ينهبون أغلاق أبواب قناء الماء ودفوف سقائف الأسواق وتسلطت الأمراض الصدرية والعصبية، فمات مئات من الناس بالأزمة والذبحة الصدرية وذات الجنب وذات الرئة والفالج وسكتة القلب، وكأن الصّقع «٢» بدأ يجري على أهله الانتخاب الطبيعي فأخذ من يضعف عن برده وأبقى من يقوى عليه، وقد جمد عدد غير قليل ممن كان مسافرا على الطرق أو كان مضطرا لمعاناة خدمة شاقة في البلد فمات أو كاد يموت لو لم يتداركه الناس بالدّفء أو الأخذ إلى الحمام، ولذا ألزمت الحكومة أصحاب الحمامات بأن يفتحوها ليلا لتكون ملجأ لمن أصابه الجمد، ومأوى للفقراء الذين فقدوا وسائط الدّفء.
واهتمت الحكومة بجمع الإعانات من أصحاب الخير فجمعت زهاء ثلاثة آلاف ليرا، فرقت ثلثها على الفقراء نقودا وثلثها اشترت به طحينا وفرقته وثلثا أحضرت به فحما من جهات حمص وبعلبك شحنته مجانا إلى حلب، إلا أنه لما قارب حماه عارضته الثلوج التي تجدد سقوطها فبقي القطار هناك نحو خمسة عشر يوما إلى أن تمكن من المجيء إلى حلب في أوائل شباط، فبيع منه جانب برأسماله وفرق باقيه على الفقراء. وكانت الحاجة إلى الفحم كثيرة، الفقير والغني فيها على السواء وكان طلب الناس له أشد من طلب القوت، وسبب ذلك أن القوت كان وافرا في حلب بسبب جودة الموسم، أما الفحم فإنه كان- في الوقت الذي جرت العادة على ادّخاره- مفقودا لأن الدوابّ التي تحمله من محلاته في فصل الخريف كانت مشغولة بأعمال الحبوب وكان الناس مؤملين بكثرة وجود الفحم في فصل الشتاء حين تفرغ الدواب من نقل الحبوب، كما يقع ذلك في أكثر السنين التي يكون فيها الموسم جيدا والشتاء معتدلا يمكن أن تسير فيه قوافل الفحم من الجبال وغيرها. أما