حصل ذلك في الصيف أيضا وكثيرا ما تتلبد سماؤها بالغيوم في إبان الحر ليلا أو نهارا فيحبس الريح ويشتد الحر وينتشر البعوض ويبقى الإنسان في اضطراب عظيم. وشرب سكان أنطاكية من العاصي أو من العيون المنحدرة إليها من جبل حبيب النجار.
وكان لمدينة أنطاكية خمسة أبواب مشهورة هي باب بولس وباب الكلب وباب دوكه وباب العاصي وباب الحديد وسورها العظيم باق حتى الآن لكنه في غاية التوهن ويبلغ محيطه ١٢ ميلا وذلك مسيرة ثلاث ساعات تقريبا وهو محيط بها من جهة الشرق والجنوب والعاصي من شمالها وغربيها.
ومما ورد في فضل أنطاكية ما نقله ابن الشحنة عن ابن العديم أنه قال: قرأت بخط القاضي أبي عمرو عثمان بن إبراهيم الطرسوسي وذكر سندا إلى ابن عباس وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالوا: سمعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ليلة أسري بي إلى السماء رأيت قبة بيضاء لم أر أحسن منها وحولها قباب بيض كبيرة فقلت: ما هذه القباب يا جبريل؟ قال:
هذه ثغور أمتك، فقلت ما هذه القبة البيضاء فإني ما رأيت أحسن منها. قال هي أنطاكية، هي أمّ الثغور وفضلها على الثغور كفضل الفردوس على سائر الجنان. الساكن فيها كالساكن في البيت المعمور يحشر إليها خيار أمتك وهي سجن عالم من أمتك وهي معقل ورباط وعبادة يوم فيها كعبادة سنة ومن مات فيها من أمتك كتب الله له يوم القيامة أجر المرابطين» «١» .
قلت: هذا الحديث غريب وإن كان لا يخلو من الدلالة على فضل هذه المدينة. وفي مسودة تاريخ ابن الملا عن ابن عباس أن الكنز الذي جاء ذكره في القرآن كان بأنطاكية وهو لوح من ذهب مكتوب في أحد جانبيه: لا إله إلا الله الواحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. وكان في الجانب الآخر: عجبا لمن أيقن بالموت كيف يفرح وعجبا لمن أيقن بالنار كيف يضحك وعجبا لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها وعجبا لمن أيقن بالحساب غدا كيف لا يعمل. اه.
فأما الكلام على تاريخ أنطاكية فقد جعلناه نبذتين الأولى فيما قاله فيها الفرنج والثانية فيما قاله فيها العرب.