للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} إلي قوله {غَفُورٌ رَحِيمٌ} (١) بين فيها سبحانه ثلاثة عشر حكماً مهمّاً، ومن أعظمها هذا الحكم، قال الله عز وجل: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فهذا يدل على وجوب فيئة بعد مضي المدة. ثم قال: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} (٢)؛ فهذا يدل على أن هنالك قولًا يسمع؛ فبهذا نزع علماؤنا وجه الاستدلال من الآية وقال المخالف (٣): الفيء يكون في طول المدة إذ ضربها الله له أجلاً في اختيار الفيء ويترك ليتبين أنه عزم الطلاق في نفسه، والباري تعالى يسمع السر والنجوى كما يسمع الجهر وما هو من ذلك أعلى. ولأجل هذا التردد اختلف الصحابة والتابعون، وهم العرب الفصحاء اللسن الأعرف بالقرآن منا وأهدى إلى دلائله، ولكن يترجَّح جانبنا بنكتة واحدة وهي أن الإيلاء كان في الجاهلية طلاقاً يقيم عليه الرجل عامين وعاماً (٤)، فشرع الله حكمه في ديننا بضرب المدة فسحة، ثم شرط الفيء حكمة وهما شيئان فلا يجعلان شيئاً واحداً إلا بدليل، وقد استوفينا ذلك في كتاب أحكام القرآن (٥). وقد قال الشافعي: يلزم الكافر الإيلاء في زوجته ويدخل تحت عموم (٦) قوله {لِلَّذِينَ


(١) سورة البقرة آية ٢٢٦ {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
(٢) سورة البقرة آية ٢٢٧.
(٣) نص في الأحكام على أن المخالف هو أبو حنيفة وأصحابه، قالوا: إن عزيمة الطلاق تعلم منه بترك الفيئة مدى التربص وقال: وأجاب علماؤنا بان العزم على الماضي محال، وحكم الله تعالى الواقع بمضي المدة لا يصح أن يتعلَّق به عزيمة منا، ثم قال: وتحقيق الأمر أن تقدير الآية عندنا (أي المالكية) للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا بعد انقضائها فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم. وتقديرها عندهم (أي الأحناف) للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فيها فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق بترك الفيئة فيها فإن الله سميع عليم. وهذا احتمال متساوٍ، ولأجل تساويه توقف الصحابة فيه، فوجب والحالة هذه اعتبار المسألة من غيره وهو بحر متلاطم الأمواج ... فالذي انتهى إليه النظر بين الأئمة أن أصحاب أبي حنيفة قالوا: كان الإيلاء طلاقاً في الجاهلية فزاد فيه الشرع المده والمهلة فأقره بعد انقضائها: الأحكام ١/ ١٨٠ - ١٨١، وانظر أحكام القرآن للجصاص ١/ ٣٥٧.
(٤) ورد عن ابن عباس قوله: (كَانَ إيلَاءُ الجْاهِلِيةِ السّنةَ وَالسّنَتَينِ ثُمَّ وَقتَ الله الْإيلَاءَ، فَمَنْ كان إيلَاؤُة دُونَ أرْبَعَةِ أشْهر فَلَيْسَ بإيلَاء)، رواه الطبرني ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد ٥/ ١٠.
درجة الحديث: صححه الهيثمي.
(٥) انظر أحكام القرآن له ١/ ١٨٠ - ١٨١.
(٦) انظر أحكام القرآن للكيا الهراسي ١/ ٢١٨ فقد قال: ومن فوائد هذه الآية دلالة عمومها على صحة إيلاء الكافر والمسلم سواء كان الإيلاء بعتق أو طلاق أو صدقة أو حج أو يمين بالله وهو مذهب ابن حزم. انظر المحلى ١١/ ٢٥١.

<<  <   >  >>