ارتحلت إلى مدينة تيونية من الأيزدية، وهي مدينة كبيرة جدا بنيانها بالآجر الأحمر الجيد لعدم معادن الحجر عندهم، ولكن لكل معلم من أهل صناعة الآجر طابع يخصه، وعليهم أمين مقدم يحتسب عليهم في طيب طين الأجر وطبخه فإذا تفلح أو تفرك منه شيء غرم الذي صنعه قيمته وعوقب بالضرب.
وهذه مدينة علم عند جميع ذلك القطر، ويجتمع بها كل عام من الآفاق أزيد من ألفي رجل يطلبون العلم، ولا يلبسون إلاّ الملف الذي هو صباغ الله، ولو يكون منهم طالب علم سلطانا أو ابن سلطان فلا يلبس الا ذلك ليمتاز الطلبة سن الغير، ولا يحكم فيها إلاّ القسيس الذي يقرءون عليه فسكنت بها كنيسة لقسيس كبير السن وعندهم كبير القدر اسمه «نقلا مرتيل» وكانت منزلته بينهم بالعلم والدين والزهد رفيعة جدا انفرد بها في زمنه عن جميع أهل دين النصرانية، فكانت الأسئلة مخصوصا في دينهم ترد عليه من الآفاق وصحبة الأسئلة من الهدايا الضخمة ما هو الغاية في بابه، ويرغبون في التبرك به وفي قبوله لهداياهم فيتشرفون بذلك، فقرأت على هذا القسيس علم أصول الدين النصرانية وأحكامه، ولم أزل أتقرب إليه بخدمته والقيام بكثير من وظائفه حتى صيرني أخص خواصه وانتهيت في خدمته وتقريبي إليه إلى أن دفع مفاتيح مسكنه وخزائن مأكله إليّ، ولم يستثن من ذلك سوى مفتاح بيت صغير بداخل مسكنه فكان يخلو فيه بنفسه، الظاهر انه بيت خزانة أمواله التي تهدى إليه، والله أعلم بحقيقته. فلازمته على ما ذكرت من القراءة عليه والخدمة له عشر سنين، ثمّ أصابه مرض يوما من الدهر فتخلّف عن القراءة وانتظره أهل المجلس وهم يتذاكرون فس مسائل من العلوم إلى أن أفضى بهم الكلام إلى قوله تعالى إلى نبيه عيسى عليه السلام أنه يأتي من بعدي نبي اسمه (البارقليط) فعظم ذلك بينهم في مقالهم وكثر جدالهم.
ثم انصرفوا عن غير تحصيل فائدة من تلك المسألة، فأتيت مسكن الشيخ صاحب الدرس المذكور فقال لي: ما الذي عندكم اليوم من البحث في غيبتي عنكم؟ فأخبرته اختلاف القوم في اسم (البارقليط) وان فلانا أجاب بكذا، وأجاب فلان بكذا، وسردت له أجوبتهم فقال لي: وبماذا أجبت أنت؟ فقلت بجواب القاضي فلان في تفسيره للإنجيل. فقال لي: ما قصرت وقربت، وفلان أخطأ، وكاد فلان يقارب الصواب، ولكن الحق خلاف هذا كله لأن تفسير هذا الاسم الشريف لا يعلمه إلاّ العلماء الراسخون في العلم، وأنتم لم يحصل لكم من العلم إلاّ القليل، فبادرت إلى قدميه أقبلها وقلت: يا سيدي، قد علمت أني ارتحلت إليك من بلد بعيدة، ولي في خدمتك عشر سنين حصلت عنك فيها من العلوم جملة لا أحصيها فلعل من جميل إحسانكم أن تتفضل عليّ بمعرفة هذا الاسم الشريف، فبكى الشيخ وقال: يا ولدي والله إنك لتعز عليّ كثيرا من أجل خدمتك لي وانقطاعك إليّ، وإن في معرفة هذا الاسم الشريف فائدة عظيمة، لكن أخاف عليك أن تظهره فتقتلك النصارى في الحين.
فقلت: يا سيدي والله العظيم وبحق الإنجيل ومن جاء به لا أتكلم بشيء مما تسره إليّ إلاّ