والكوليج دي فرانس لا يفتح إلا في وجه صفوة الصفوة من العلماء، قال تلميذه الاستاذ الطيب السحباني:«واجتمعت بعد أيام بأحدهم فقال لي جاءنا أخيرا من بلدكم الشيخ ابن عاشور، وقد أحدث في المستمعين أثرا بليغا قلت كيف وفي أي لغة؟ قال ألقى علينا دراسة عظيمة ثم رد على مناقشتنا إياه في اللغة الفرنسية، واستطرد الاجنبي قائلا: إن لكم في تونس عالما جليلا فليتني أوتيت من فقه اللغة العربية ما أوتيه من معرفة مشاغلنا ولغتنا».
كنت قبل أن أرحل من صفاقس لطلب العلم بجامع الزيتونة في تطلع لمعرفة شخصه وسماع دروسه ومحاضراته لما له من صيت علمي ذائع، وما كنت أطالع له بشغف وإعجاب مقالاته المنشورة في مجلة الثريا والمجلة الزيتونية، ولما دخلت جامع الزيتونة وجدته يدرس في التعليم العالي على طلبة العالمية في الآداب والتفسير ومقدمة ابن خلدون، وأنا آنذاك ما زلت في التعليم الثانوي فاهتبلت أول فرصة تخلف فيها أحد شيوخي عن درسه واستمعت لدرسه في التفسير فطرق أذني ما لم أسمعه وما لم أقرأه في كتب التفسير، سمعت أسلوبا جديدا لا يعتمد على المناقشات النحوية واللفظية، ويعتمد كثيرا على علم النفس لاستجلاء سياق الآيات والكشف عن معانيها في يسر. ومرة أخرى سمعته يدرس مقدمة ابن خلدون فكانت اسماء الفلاسفة كاوقست كونت وكارل ماركس تدور على لسانه مقارنا بين آرائهما وآراء ابن خلدون حتى أني اتذكر أنا كنا في حلقة الشيخ مصطفى المؤدب فانقطع يسيرا عن الإلقاء واصغى إليه قليلا.
وفي هذه الفترة سنة ١٩٤٥ - ٤٦ كان مديرا للخلدونية ولمعهد البحوث الاسلامية التابع لها، وغالب محاضرات هذا المعهد يقوم هو بإلقائها، وهذه المحاضرات تناولت أقطار العالم العربي والعالم الاسلامي، وقسم العالم الاسلامي إلى وحدات كالوحدة الطورانية، ويحاضر عن أقطار كل وحدة، ويبتدئ بالحديث عن جغرافيتها ثم عن تاريخها إلى العصر الحاضر، ويختم محاضرته عن حالتها السياسية والاجتماعية. وهذه المحاضرات بعيدة عن