الخضر «١» والبقول الشتوية في البساتين كالسلق والإسفانج والقنّبيط، ولم يسلم منها سوى ذوات الجذور كالجزر واللفت، وعطب شجر البرتقال وما هو من هذه الفصيلة، وشجر التين والجوز والزيتون والرمان في حلب وأنطاكية والباب وأرمناز وسلقين وما قارب تلك النواحي، وقبحت مناظر المنازل والشوارع بما تراكم فيها من الثلوج وأكداس الجليد واندلاع ألسن الميازيب وسيلان أنوف الأسطحة مما تقشعرّ لمنظره النفوس وترتعد له الفرائص.
ولسان حال الناظر إلى ذلك يقول:
فإن كنت يوما مدخلي في جهنّم ... ففي مثل هذا اليوم طابت جهنّم
مناظر تخدع العين وتدهش العقل، فيحسب السائر في منازل حلب وشوارعها أنه سائر في خرابة عظيمة رومانية أخنى عليها الدهر وعاثت بها أيدي الأيام والليالي، حتى عادت أنقاض أطلالها ركاما وأبنيتها المتزاحمة وديانا. عطلت الحكومة جميع المكاتب والمدارس وانقطع البريد عن حلب من جميع الجهات مدة ثلاثين يوما، فاجتمع في ثغر بيروت من الكتب والرسائل ما يملأ ثلاثين عدلا. ثم في العشر الأول من شباط حملت في البحر إلى إسكندرونة ومنها إلى حلب.
وكان الناس في بحران هذه الأزمة «٢» الشديدة قد لزموا منازلهم وانقطعوا عن السمر والسهر عند بعضهم، وكان كثير من العائلات المتوسطة في الحال- التي كانت العائلة الواحدة منها تسكن أفرادها متفرقة في خلوات الدار وغرفها- قد انضموا في أثناء هذه الشدة إلى بعضهم، وصاروا كلهم، كبار وصغار «٣» ، يقومون ويقعدون في خلوة واحدة طلبا للدفء فلا يجدونه، وكان الإنسان يتدثّر بأثقل ما عنده من الدثار حتى يكلّ متنه ويوقد في خلواته المناقل العديدة فلا يتيسر له الدفء الذي يريده، وقد جمد مداد المحابر وما في ظروف الماء الموضوعة قرب منافذ الخلوة. وكنا نأخذ قطع الجليد ونذيبها في النار فلا تذوب إلا بعد بضع دقائق، وكأنها- لمّا كان جمودها ببرودة درجتها بضع