للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إلى قوله {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} (١) وهي أمٌّ من أمهات مسائل الأحكام، فقوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} نص في التحريم لا كلام لأحد فيه ولا مجال للنظر معه. وقوله: الميتة عموم فمن الفقهاء من قال: هو عام في الجثة كلها وجميع أجزائها حرام (٢). ومنهم من قال: إنما يتناول قوله: الميتة ما يموت (٣) ولا يموت إلا ما كانت فيه حياة، والعظم والشعر لا حياه فيه فلا يموت فلا يتناوله التحريم (٤). ومنهم من قال أما العظم ففيه حياة لأنه يحس والتحريم يتناوله ويألم فيموت فيحرم. وأما الشعر فلا حياة فيه فلا يموت فلا يتناوله التحريم، ألا ترى أنه يجز في حال الحياة وكذلك بعد الممات، فهذا مجال تختلف فيه هذه الأحوال ويفتقر كل فن منها إلى النظر والاستدلال فليؤخذ من موضعه فهذه منزلة من النظر.

منزلة أخري. لما قال الله تعالى. {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} قال: المبيّن لنا ما أشكل منه علينا وقد مرّ بشاة ميتة فقال: "هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغتموه فَانْتَفَعْتمْ بِهِ قَالُوا: يا رَسُولَ الله إِنَّهَا مَيْتَةٌ قَالَ. إِنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا" فبيَّن - صلى الله عليه وسلم - أن متناول التحريم من عموم القرآن الأكل خاصة، وأن باقي الميتة على الإباحة الأصلية، ثم علم طريق تحصيل الانتفاع بالدباغ الذي جعله الله سبحانه بحكمته خلقًا للحياة؛ فإن الحياة تدفع العفونة عن الجلد ويبقى معها مهيئًا للانتفاع مع اتصاله باللحم، كما يفعل الدباغ بالجلد عند انفراده عن


(١) سورة المائدة آية ٣.
(٢) هذا هو مذهب أحمد، قال ابن قدامة: كل جلد ميتة دبغ أو لم يدبغ فهو نجس لا يختلف المذهب في نجاسة الميتة قبل الدبغ ولا نعلم أحدًا خالف فيه، وأما بعد الدبغ فالمشهور في المذهب أنه نجس أيضًا. المغني ١/ ٦٦.
(٣) قال ابن رشد: ممن رأى أن الدباغ مطهر الشافعي وأبو حنيفة، وعن مالك في ذلك روايتان إحداهما مثل قول الشافعي، والثانية أن الدباغ لا يطهرها ولكنها تستعمل في اليابسات، والذين ذهبوا إلى أن الدباغ مطهر اتفقوا على أنه مطهر لما تعمل فيه الذكاة من الحيوان أعني المباح الأكل. بداية المجتهد ١/ ٦١.
(٤) قال القرطبي: وأما شعر الميتة وصوفها فطاهر .. لأنه كان طاهرًا لو أخذ منها في حال الحياة فوجب أن يكون كذلك بعد الموت. تفسير القرطبي ٢/ ٢١٩، وقال الشارح في الأحكام ٣/ ١١٥٧: اختلف الفقهاء بحسب اختلاف التأويل فقال مالك وأبو حنيفة: إن الموت لا يؤثر في تحريم الصوف والوبر والشعر لأنه لا يلحقها إذ الموت عبارة عن معنى يحل بعدم الحياة ولم تكن الحياة في الصوف والوبر فيلحقها الموت فيها، وقال الشافعي: ذلك كله يحرم بالموت لأنه جزء من أجزاء الميتة وقد قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وذلك عبارة عن الجملة وإن كان الموت يحل بعضها، وقال: والجواب عن قوله هذا أن الميتة وإن كان اسمًا ينطلق على الجملة فإنه إنما يرجع بالحقيقة إلى ما فيه حياة فنحن على الحقيقة لا تعدل عنها إلى سواها.

<<  <   >  >>