للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الثانية: أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، إنما قال له ذلك لأنه كان أول ما أسلم، فأراد أن يطمئن فؤاده عليها، وبعد ذلك يفعل هو سواها مما يظهر من ترغيب الإسلام.

قال أهل الإشارة (١): لا يتم للرجل القيام بالفريضة حتى تكون له نافلة لأنه إذا أكثر من النوافل جاء إلى الفريضة مطمئن القلب نشيط الجوارح مقبوض القلب عن الخواطر فتكون الصلاة له محفوظة من أولها، وإذا خرج إلى الفريضة من الغفلة وابتدأ بها لم يكن يطمئن فؤاده ولا كمل نشاطه إلا في آخرها فلا يستوي أولها وآخرها.

عارضة: كنت بالمسجد الأقصى، طهَّره الله تعالى، حتى جاء إلى الحلقة رجلان فقال أحدهما: كنتُ ألعبُ مع هذا بالشاة فلما توسطنا في الدست وقع بيني وبينه كلام فقلت: امرأتي طالق إن لعبت معك أبداً إلَّا هذا الدست. ثم جاء ما قطع بيننا عن استكماله (٢) فهل أحنث أم لا؟.

فاختلف المفتون، فمنهم من قال: يحنث لقول النبيّ، - صلى الله عليه وسلم - "هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: لَا إلَّا إِنْ تَطَّوَّعَ" فإذا تطوع لزمه (٣). وقال آخرون: لا شيء عليه لأنه حرم بيمينه على نفسه اللعب وأبقى ذلك الدست مباحًا، فإن شاء استوفى المباح استوفاه، وإن شاء أن يتركه تركه، وهذا الذي اختاره الطرطوشي (٤) وعطاء (٥) فقيه الشافعية لأن لزوم التطوع بالشروع في النافلة لم يكن من باب الاستثناء وإنما كان من قبيل آخر، وقد بيّنّاه في مسائل


(١) هذه العبارة قدّمنا غير مرة أنه يطلقها على الصوفية.
(٢) في الأصل إكماله وفي بقية النسخ استكماله.
(٣) قال الحافظ: استدل بهذا على أن الشروع في التطوع يوجب إتمامه تمسكًا بأن الاستثناء فيه متصل، وقال: قال القرطبي لأنه نفي وجوب شيء آخر إلا ما تطوع به والاستثناء من النفي إثبات ولا قائل بوجوب التطوع فيتعين أن يكون المراد إلا أن تشرع في تطوع فيلزمك إتمامه. وتعقبه الطيبي بأن الاستثناء هنا من غير الجنس؛ لأن التطوع لا يقال فيه عليك فكأنه قال لا يجب عليك شيء إلا إن أردت أن تطوع فذلك لك، وقد علم أن التطوع ليس بواجب فلا يحب شيء آخر. كذا قال وحرف المسألة دائر على الاستثناء؛ فمن قال متصل تمسك بالأصل، ومن قال إنه منقطع احتاج إلى دليل، والدليل عليه ما روى النسائي وغيرُه أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، كان أحياناً ينوي صوم التطوع ثم يفطر. وفي البخاري أنه أمر جويرية بنت الحارث أن تفطر يوم الجمعة بعد أن شرعت فيه، فدل على أن الشروع في العبادة لا يستلزم الإتمام إذا كانت نافلة، بهذا النص في الصوم وبالقياس في الباقي. فح الباري ١/ ١٠٧.
(٤) تقدم.
(٥) عطاء: فقيه بيت المقدس وقاضيها ذكره في العارضة ٨/ ١٣٩ وسماه المقري في نفخ الطيب ٢/ ٢٤٧، وانظر آراء ابن العربي الكلامية ١/ ٣٨، ولم أعثر له على ترجمة.

<<  <   >  >>