للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كشجاعة أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، فإن الشجاعة والجرأة إنما حدّهما ثبوت القلب عند حلول المصائب ولا مصيبة أعظم من موت النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فظهرت فيها شجاعة أبي بكر وعلمه، قال الناس: لم يمت رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، منهم عمر، رضي الله عنه، وخرس عثمان، رضي الله عنه، واستخفى عليّ، رضي الله عنه، واضطرب الأمر فجاء أبو بكر، رضي الله عنه، وكان غائباً، فكشف الثوب عن وجهه الكريم وقال: بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً، ثم خطب الناس فقال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} (١) الآية، فخرج الناس يتلونها في سكك المدينة كأنها لم تنزل قط إلا ذلك اليوم (٢)، ولم يعلم أحد حيثُ يدفن، فقال أبو بكر، رضي الله عنه: سمعته يقول: (لَمْ يُدْفَنْ قَطُّ نَبِيٌّ إلَّا حَيْثُ يَمُوت) (٣) وطلبت فاطمة ميراثها فقال: سمعته يقول: "إنّا مَعْشَرُ الأنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ" (٤) وارتدت العرب فمنعت الزكاة فقال له عمر، رضي الله عنه، وسواه: اقنع منهم بالصلاة حتى يتمهَّد الإِسلام، فقال: وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ الله لَقَاتَلْتهُمْ عَلَيْه (٥) , وقيل له: أمسك جيش أُسامة تستعين به على قتال أهل الردة، فقال: وَاللهِ لَوْ لَعِبَتِ الْكِلابُ بخَلَاخِيلِ نِسَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَا رَدَدْتُ جَيْشاً أَنفَذَهُ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، قال له عمر، رضي الله عنه: ومع من تقاتلهم؟ قال له: وَحْدِي (٦) حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفتِي. فكان هذا أصلاً في أن لا يرد حاكم حكماً أنفذه غيره قبله وإن رأى الناس خلافه (٧).


(١) سورة آل عمران آية ١٤٤.
(٢) روى القصة الإِمام أحمد، انظر الفتح الرباني ٢٣/ ٦١ - ٦٢ وسيأتي الكلام على الحديث قريباً .. وانظر البداية والنهاية ٥/ ٢٤٢ - ٢٤٣، وابن الأثير في الكامل ٢/ ٢٢٠ - ٢٢٥، ومغازي رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، لعروة بن الزبير ص ٢٢٣، والسيرة لابن كثير ٤/ ٤٩١.
(٣) تقدم تخريجه.
(٤) متفق عليه. البخاري في فرض الخمس ٤/ ٩٦، وفي الفرائض باب قول النبي، - صلى الله عليه وسلم -: (لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ) ٨/ ١٨٥، ومسلم في الجهاد والسير باب قول النبي، - صلى الله عليه وسلم - (لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ) ٣/ ١٣٨٠ كلاهما من حديث عائشة.
(٥) متفق عليه، البخاري في كتاب الاعتصام باب قول النبي، - صلى الله عليه وسلم - (بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلَمِ) ٩/ ١١٥، ومسلم في كتاب الإيمان باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويؤمنوا بكل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ١/ ٥١ - ٥٢ كلاهما عن أبي هريرة.
(٦) تاريخ الطبري ٣/ ٢١٢ البداية والنهاية ٦/ ٣٠٤، وأبو بكر الصديق لعلي الطنطاوي ص ١٨٢.
(٧) قال مالك: وليس عليه كشف أحكام من قبله ولا التعقيب عليه، وقال محمَّد بن مسلمة: يمضي حكم =

<<  <   >  >>