كتابه «العبر» وأكمل «المقدمة» منه «على ذلك النحو الغريب الذي اهتدى إليه في تلك الخلوة، فسالت فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر، حتى امتخضت زبدتها، وتآلفت نتائجها» وأتم تأليف «المقدمة» في مدة خمسة أشهر، ثم كتب أخبار العرب والبربر، وزناتة من حفظه وتبين له ضرورة الرجوع إلى المصادر للتوثيق والتصحيح والتنقيح، وليس في قلعة ابن سلامة ما يريد الرجوع إليه من كتب فقرر العودة إلى تونس حيث يجد فيها ما يهمه من مصادر، فكاتب السلطان أبا العباس الحفصي الذي سبق له التعرف به منذ حادثة بجاية «بالفيئة الى طاعته فما كان غير بعيد وإذا بخطابه وعهوده بالأمان والاستحثاث للقدوم» فارتحل من قلعة ابن سلامة متوجها إلى وطنه، ووافى السلطان أبا العباس بظاهر مدينة سوسة، فأكرم وفادته وبالغ في تأنيسه، وشاوره في مهمات أموره ثم سافر إلى مدينة تونس وألقى عصاه واستقر به النوى في شعبان ٧٨٠ نوفمبر ديسمبر ١٣٧٨، وفي تونس اقتصرت جهوده على العلم والتدريس، وأكمل التحرير المبدئي لكتابه «العبر» وأهدى نسخة منه إلى السلطان أبي العباس مصحوبة بقصيدة طويلة في مدحه أملتها الظروف، وكان ابن خلدون يروم الاستقرار بوطنه لكن اعداءه وحساده دسوا له لدى السلطان محاولين إثارة غضبه عليه، وخشي من مساعيهم الهلاك، وعزم على ترك المغرب الإسلامي، وتعلل بالسفر للشرق لأداء فريضة الحج، واستأذن السلطان فأذن له، وكانت سفينة لتجار الاسكندرية راسية بميناء تونس فركب فيها متوجها إلى الاسكندرية، في ١٥ شعبان سنة ٧٨٤/ ١٤ اكتوبر ١٣٨٢ التي وصلها بعد أربعين ليلة، واستقر رأيه تأجيل السفر إلى الحجاز والذهاب إلى القاهرة، وفيها جلس للتدريس في الجامع الأزهر، وتقاطرت الطلبة على دروسه، ثم اتصل بالسلطان الظاهر برقوق فأبّر لقاءه وأنّس غربته، ووفّر الجراية من صدقاته، ثم ولاه التدريس بالمدرسة القمحية على أثر وفاة بعض المدرسين بها ثم المدرسة الظاهرية بعد فراغ السلطان الظاهر برقوق من بنائها، وبعد رجوعه من الحج شغرت خطة مدرس الحديث في مدرسة صرغتمش وذلك بدلا من تدريسه بالظاهرية، وجلس للتدريس فيها في محرم سنة ٧٩١، ثم