للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وغَرابته، وجمعِه بين نَظْمِ أُمور المُلك وزُهدِه وخشوعهِ في عبادِته وإنابته.

ورَدَّ المدينة بعَدلِه إلى حالةٍ يُغْبَطُ أهلُها على سُكْنَاها، وبلغت كلُّ نفسٍ من الخِصْب والعدل والأمنِ مُنَاها، وأَمِنت الناس على أنفسهم وأهلِيهم وأموالهم في مَنَاها (١).

وكان عنده وَحشةٌ عظيمةٌ من أخذ العشور والمُكوس (٢)، على أنَّه لم يدخل شيءٌ منه في مطعومٍ ومشروب وملبوس (٣)، ولم يزلْ يحمل همَّها، وينفي سَمَّها، إلى أَنْ طهَّره اللهُ منها بحسن نِيَّة، وخُلوص طَوِيَّة، وعوَّضَه عنها، ما هو خيرٌ منها، ورُتِّب له من الحلالِ مالٌ جزيل، عوضاً عمَّا تركه من ذلك الحرام القليل.

وكان لا يظهر عليه آثار الإِمْرة والولاية، ولا له في ترتيب الأُمور المعتادة للأُمراء اهتمام وعناية.

حكى لي أبو عبد الله محمدُ بنُ الحَكري (٤) أحدُ قضاةِ المدينة قال: بلغني ضَعْفُه وانقطاعه في البيت فتوجَّهتُ لعيادتِه، ودخلتُ إليه لزيارته، فوجدتُ شخصاً على جِلٍّ (٥) مُلتفاً بكساءٍ عتيق، فظننتُه بعضَ الخُدَّام أو بعضَ الرَّقيق، فقصدت التَّخطي، حتى أُخبرتُ أَنَّه المُتَغطِّي، فأدَّيتُ من عيادته ما وجب، وقضيتُ من زَهَادتِه العجب.


(١) مناها: قدرِها وتقديرها، ويحتمل المَنَى: الموت. يريد أنَّ الناس أمنوا على أموالهم بعد موتهم من السَّلب والنَّهب. القاموس (مني) ص ١٣٣٦.
(٢) المُكوس: جمع مَكْسٍ، وهي ما تُعرف بالضَّرائب. القاموس (مكس) ص ٥٧٥.
(٣) أي: له.
(٤) شمس الدِّين محمد بن سليمان الحَكري، المقرئ، ولي قضاء المدينة سنة ٧٦٦ هـ، توفي سنة ٧٨٢ هـ. نَصِيحَةُ المُشَاور ص ٢٣١، الدُّرَرُ الكَامِنَةُ ٣/ ٤٥١، وستأتي ترجمته في حرف الميم.
(٥) الجِلُّ: البِساط. القاموس (جَلَل) ص ٩٧٨.