للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة النفس التي دل عليها الكتاب والسنة والإجماع]

قال رحمه الله تعالى: [والذي يدل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل: أن النفس جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس].

وجه المخالفة ما ذكرته قبل قليل، وهو أنها ليس فيها ثقل ولا كثافة، هذا معنى مخالفة الأجسام الكثيفة المركبة، فهي مخالفة للجسم في كيفية الخلق، فليس لها ثقل ولا كثافة.

قال رحمه الله تعالى: [وهو جسم نوراني علوي، خفيف حي متحرك، ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون، والنار في الفحم.

فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي ذلك الجسم اللطيف سارياً في هذه الأعضاء، وأفادتها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية، وإذا فسدت هذه بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها، وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن، وانفصل إلى عالم الأرواح.

والدليل على ذلك قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:٤٢]، ففيها الإخبار بتوفيها وإمساكها وإرسالها].

هذا يحتمل أن المقصود به الروح، أو أن النفس قد يرد ذكرها أحياناً على معانٍ أخرى، وسيأتي الكلام عن أن النفس والروح بينهما أحياناً تلازم، وبينهما أحياناً افتراق حسب السياق، ومع ذلك فإن مجموع النفس والروح توصف بصفات تدل على أنها مخلوقة، وأنها ربما تكون جواهر بسيطة أو مخلوقات شفافة، وغير كثيفة، فورد أن النفس والروح قابلة للتوفي، وأنها قابلة للقبض، وأنها قابلة للإخراج والخروج والدخول، والبعث والعروج، وغير ذلك من الأوصاف التي تطلق على النفس والروح معاً، وأحياناً بعضها يطلق على الروح فقط، وبعضها يطلق على النفس.

وهذا دليل على أن بين الروح والنفس شيئاً من الترادف أحياناً وشيئاً من الاختلاف في بعض الأحيان بحسب السياق.

والأقوال في تفسير الروح ليس لها مستند يقيني من الأدلة الشرعية، ما هي إلا استنباطات إما من ظواهر النصوص، وإما من كلام الناس، وإما من بعض الاستنتاجات العقلية التي لا يلزم أن تكون حقيقة، فليس في ذلك ما تتعلق به العلوم الشرعية، بل هي أقوال أقرب إلى الترف العلمي منها إلى الحقائق العلمية، فضلاً عن أن تكون عقيدة، ما عدا الإجماليات الكبرى، ككون الروح من خلق الله عز وجل، وتنفخ في الجسد في وقت معين، وأن الله عز وجل يرسل ملكاً لنفخ الروح في وقت معين بعد مائة وعشرين يوماً إلى آخر هذه الأمور التي لا بد من الإيمان بها؛ لأنها جاءت بها النصوص.

أما ما عدا ذلك -كتفسير الروح ما هي، والنفس ما هي، ومتى تغاير النفس الروح، ومتى توافقها- فهذه أمور أقرب إلى الاستنتاجات، وبعضها يكون راجحاً إذا قام عليه الدليل، لكن لا يكون يقينياً، وبعضها لا أصل له.

قال رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ} [الأنعام:٩٣]، ففيها بسط الملائكة أيديهم لتناولها، ووصفها بالإخراج والخروج، والإخبار بعذابها ذلك اليوم، والإخبار عن مجيئها إلى ربها.

وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} [الأنعام:٦٠]، ففيها الإخبار بتوفي النفس بالليل، وبعثها إلى أجسادها بالنهار، وتوفي الملائكة لها عند الموت.

وقوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:٢٧ - ٣٠]، ففيها وصفها بالرجوع والدخول والرضا.

وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الروح إذا قبض تبعه البصر)، ففيه وصفه بالقبض، وأن البصر يراه.

وقال صلى الله عليه وسلم في حديث بلال: (قبض أرواحكم حين شاء وردها عليكم حين شاء)، وقال صلى الله عليه وسلم: (نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة).

وسيأتي في الكلام على عذاب القبر أدلة كثيرة من خطاب ملك الموت لها، وأنها تخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، وأنها تصعد ويوجد منها من المؤمن كأطيب ريح، ومن الكافر كأنتن ريح، إلى غير ذلك من الصفات.

وعلى ذلك أجمع السلف ودل العقل، وليس مع من خالف سوى الظنون الكاذبة، والشبه الفاسدة، التي لا يعارض بها ما دل عليه نصوص الوحي والأدلة العقلية].