قال رحمه الله تعالى: [فاحتاج المؤمنون بعد ذلك إلى إيضاح الأدلة ودفع الشبه الواردة عليها، وكثر الكلام والشغب، وسبب ذلك إصغاؤهم إلى شبه المبطلين، وخوضهم في الكلام المذموم الذي عابه السلف، ونهوا عن النظر فيه والاشتغال به والإصغاء إليه؛ امتثالاً لأمر ربهم حيث قال:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}[الأنعام:٦٨] فإن معنى الآية يشملهم.
وكل من التحريف والانحراف على مراتب: فقد يكون كفراً، وقد يكون فسقا، وقد يكون معصية، وقد يكون خطأ.
فالواجب اتباع المرسلين، واتباع ما أنزل الله عليهم، وقد ختمهم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم، فجعله آخر الأنبياء، وجعل كتابه مهيمناً على ما بين يديه من كتب السماء، وأنزل عليه الكتاب والحكمة، وجعل دعوته عامة لجميع الثقلين: الجن والإنس، باقية إلى يوم القيامة، وانقطعت به حجة العباد على الله، وقد بين الله به كل شيء، وأكمل له ولأمته الدين خبراً وأمرا، وجعل طاعته طاعة له، ومعصيته معصية له، وأقسم بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموه فيما شجر بينهم، وأخبر أن المنافقين يريدون أن يتحاكموا إلى غيره، وأنهم إذا دعوا إلى الله والرسول -وهو الدعاء إلى كتاب الله وسنة رسوله- صدوا صدودا، وأنهم يزعمون أنهم إنما أرادوا إحساناً وتوفيقا، وكما يقوله كثير من المتكلمة والمتفلسفة وغيرهم: إنما نريد أن نحس الأشياء بحقيقتها -أي: ندركها ونعرفها- ونريد التوفيق بين الدلائل التي يسمونها العقليات -وهي في الحقيقة جهليات- وبين الدلائل النقلية المنقولة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو: نريد التوفيق بين الشريعة والفلسفة].
هذه الدعوى -وهي دعوى الإحسان أو دعوى الإصلاح ودعوى كل طائفة وكل صاحب منهج أن منهجه هو الأسلم وهو الأصلح- توجد في كل الطوائف التي خرجت عن السنة والجماعة، سواء الطوائف التي خرجت خروجاً اعتقادياً وهي الفرق، والطوائف التي خرجت خروجاً عملياً، وهم أهل الفسق والفجور، فهؤلاء كل منهم يدعي أنه أراد الإصلاح وأراد التوفيق، وهذا من التضليل والإيهام والتلبيس على الناس؛ فإن شرع الله تعالى لا يمكن أن يلفق بغيره، ولا يمكن أن يوفق بينه وبين غيره؛ لأن التوفيق هنا تلفيق، والتوفيق إنما هو بين الأمرين المختلفين على الحق، أما التوفيق بين الحق والباطل فهذا لا يمكن، وكل دعوى توفيق بين الحق والباطل إنما هي تلفيق، وكل الأصناف التي ذكرها الشارح -كالمتكلمة والمتفلسفة- يدعون التوفيق، وعملهم ليس بصحيح، ودعواهم ليست حقيقية؛ لأن دين الله تعالى كامل وشرعه شامل لمصالح العباد في الدنيا والآخرة، ودين الله -أيضاً- لا بد من أن يتضمن قطعاً ما يحقق سعادة البشر في الدنيا والآخرة، فدعوى أن الناس قد يحتاجون إلى شيء من العقليات تقرر لهم عقائدهم أو تقرر لهم الأصول الكبرى والأحكام القطعية الشرعية؛ دعوى باطلة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أكمل الدين، والله سبحانه وتعالى هو المشرع وهو العليم بمصالح عباده، فلا يمكن أن يدعي أحد من الناس أن في دين الله نقصاً، ودعوى التوفيق إنما تعني اتهام دين الله بالنقص وأنه بحاجة إلى أن يسد، وأن فيه نوعاً من الخلل، ولا يمكن أن يكون ذلك في دين الله تعالى.
قال رحمه الله تعالى:[وكما يقوله كثير من المبتدعة من المتنسكة والمتصوفة: إنما نريد الأعمال بالعمل الحسن، والتوفيق بين الشريعة وبين ما يدعونه من الباطل الذي يسمونه حقائق، وهي جهل وضلال، وكما يقوله كثير من المتملكة والمتأمرة: إنما نريد الإحسان بالسياسة الحسنة، والتوفيق بينها وبين الشريعة، ونحو ذلك].
وهذه -أيضاً- دعوى عريضة باطلة، دعوى التوفيق بين الشريعة وبين ما يسميه المتصوفة: الحقائق، وهي الجهل والضلال، والمتضادان لا يتفقان أبداً، وعلى سبيل المثال نجد أنهم في حقيقة عقائدهم يعتقدون الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، أو يعتقدون أن من مصادر دينهم الكشف والفيض والذوق وتقديس الأولياء وعلم الغيب ونحو ذلك، وفي الوقت نفسه يدعون من جانب آخر أنهم على العقيدة الصحيحة وعلى السنة، بل يحرصون على إظهار الشعائر الإسلامية، فشعائر الدين هم من أحرص الناس على إظهارها وإظهار الزهد والتنسك، وهذا مما يَفتِن بهم العامة؛ فلذلك نجد في تقرير غلاة المتصوفة والذين جمعوا بين التصوف والفلسفة للاعتقاد أمراً عجيباً، فمثلاً: نجد أحدهم - كـ ابن عربي على سبيل المثال- يقرر مذهب السلف حتى يظن القارئ أن هذا القائل أو المتكلم من أئمة الدين، ثم لا يلبث أن يعرج على عقيدة غلاة الفلاسفة وغلاة المتصوفة حيث يعتقد أنهم يعلمون الغيب ويعتقد أنهم فوق درجة الأنبياء، ويقرر أن للدين مصادر غير الكتاب والسنة مما عليه المتصوفة ونحو ذلك من الأمور الكفرية الخالصة.
فهذا التلفيق يعتقدون أنه محاولة للتوفيق بين السنة الظاهرة والشريعة وعقيدة المسلمين التي يسمونها الظاهر، وبين الحقيقة في عقائدهم، وهي الزندقة والكفر، ويزعمون أن هذا المنهج هو المنهج ال