قال: [السادس عشر: عدم جواز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه.
يقول شيخ الإسلام في مجموعة الرسائل والمسائل وهو بصدد الحديث عن قاعدة أهل السنة والجماعة في أهل الأهواء والبدع: ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}[البقرة:٢٨٥]، وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء، وغفر للمؤمنين خطأهم، والخوارج المارقون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين من بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي رضي الله عنه حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار، ولهذا لم يسب حريمهم ولم يغنم أموالهم.
وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم؛ فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟! فلا يحل لإحدى هذه الطوائف أن تكفر الأخرى ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فيكف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضاً؟! وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعاً جهال بحقائق ما يختلفون فيه].
هنا ينبغي التنبيه على أمر، ولعله سيأتي -إن شاء الله- مستقبلاً بشكل واف في شرح الطحاوية إذا دخلنا فيه، لكن بالمناسبة أحب أن أنبه إليه؛ لأنه قد يعالج بعض المظاهر التي ظهرت لدى طائفة من طلاب العلم المستعجلين هداهم الله، وهذه المسألة هي مسألة التكفير باللوازم والتكفير بالبدعة المكفرة، أو التكفير بالقول المكفر أو التكفير بالأصل المكفر، وأقصد بذلك: أنَّه ليس كل من ارتكب مكفراً يكفر بشخصه، فضلاً عن الطوائف، وليست كل طائفة ارتكبت مكفراً نحكم بكفرها، وسأضرب لكم مثلاً بعدما ضرب المحقق هنا مثلاً بالخوارج، فهناك مثل آخر في المتكلمين من الأشاعرة والماتريدية، فغلاة المتكلمين منهم خالفوا السلف في قضايا كثيرة، ومع ذلك لم يقل أحد بكفرهم، إلا بعض المستعجلين من المتأخرين هداهم الله، فما قالوه -أي: الأشاعرة وغيرهم- لا يستدعي تكفيرهم، حتى ولو وصل الحال ببعضهم إلى أن يقول بمقولة كفر، فإن تكفيره بعينه أمر يجب أن يتثبت فيه.
وأريد بهذا أن أصل إلى النتيجة الخطيرة التي أردت التنبيه عليها، وهي أن مسألة التكفير لمن لم يستحق الكفر أشد خطأً من ارتكاب صاحب الكفر لما كفر به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من هذا وقال:(من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما)، يعني: إذا خرج التكفير من شخص مع الاعتقاد؛ فلابد من أن يقع هذا التكفير على أحد الشخصين، فإن كان من أطلق عليه الكفر كافراً -وهذا في علم الله- وقعت عليه، وإذا لم يكن كافراً في علم الله رجعت إلى صاحبها فكفر نفسه من حيث لا يشعر، فيجب التنبه لهذا الأمر.
وهناك أمر آخر متفرع عن هذا، وهو أننا لم نتعبد بالتكفير أصلاً، صحيح أن هناك ما يسمى بالولاء والبراء، لكن هذه قاعدة إجمالية، ليس كل من واليناه لابد فيه من أن يكون على الاستقامة الكاملة، وليس كل من عاديناه لابد فيه من أن يكون على الضلالة الكاملة، بل قد يجتمع الولاء والبراء في شخص واحد، قد يجتمع الولاء والبراء في غالب المسلمين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً.
إذاً: فمسألة التكفير من أشد المسائل خطورة، وأرى الناس بدءوا يلوكونها وكأنها مجرد أحكام عادية ينتزعها الإنسان متى شاء ويلبسها من يشاء، مع أن هذه مسألة خطيرة لم يتعبد بها أولاً، إنما تعبدنا بالتكفير بالجملة لا بالتعيين، فالتكفير بالجملة معروف وأمر سهل ويعرفه أهل العلم، فاليهود كلهم كفار بالجملة، والنصارى كفار بالجملة، والمشركون كفار بالجملة، ومن خالف قطعياً من قطعيات الدين فهو كافر بالجملة، ومن أخل بركن من أركان الدين فهو كافر بالجملة، لكن تعيين أفراد أو جماعات أو فرق مسألة خطيرة لم نتعبد بها، وأهل العلم كانوا يتورعون فيها أشد التورع، ثم إن أكثر الناس يفهم التكفير دائماً على أنه التكفير المخرج من الملة، ومن هنا ينتزع أقوال أهل العلم في بعض المقولات أو في بعض الأشخاص فيكفر بها، مع أن أهل العلم قديماً إذا أطلقوا التكفير في مسائل أهل القبلة؛ فأغلب ما يطلقونه على التكفير الذي لا يخرج عن الملة، الذي هو كفر دون كفر، ويتورعون كل التورع عن التكفير الذي يخرج عن الملة.