للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شبهة القائلين بعدم وجود الجنة الآن والرد عليهم]

قال: [وأما شبهة من قال: إنها لم تخلق بعد، وهي أنها لو كانت مخلوقة الآن لوجب اضطراراً أن تفنى يوم القيامة، وأن يهلك كل من فيها ويموت؛ لقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:٨٨].

{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:١٨٥].

وقد روى الترمذي في جامعه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، قال: هذا حديث حسن غريب.

وفيه أيضاً من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة) قال: هذا حديث حسن صحيح.

قالوا: فلو كانت مخلوقة مفروغاً منها لم تكن قيعاناً، ولم يكن لهذا الغراس معنى، قالوا: وكذا قوله تعالى عن امرأة فرعون أنها قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:١١]؟].

هذه الشبهات كلها قالها بعض المعتزلة والجهمية والفلاسفة، حتى ممن يسمون بالفلاسفة الإسلاميين، ليس في الإسلام فلسفة وليس من المسلمين فلاسفة، لكن سموا إسلاميين؛ لأنهم يدّعون الإسلام، وإلا فأغلبهم ينزعون إلى الباطنية، فلذلك فإن الفلاسفة الإسلاميين كـ ابن سينا وابن رشد وابن الفارض وابن سبعين والسهروردي وغيرهم، هؤلاء أغلبهم من الباطنية، ومن لم يكن باطني الأصل، فهو لا يؤمن بكثير من أمور الإسلام، إنما هم على مذاهب الفلاسفة وإن ادعوا الإسلام.

وقوله: (وأما على قول من قال: إن الجنة الموعود بها هي الجنة التي كان فيها آدم ثم أخرج منها) يعني: أن الجنة موجودة؛ لأن جنة آدم التي كان فيها جنة حقيقية، عاش فيها آدم جزءاً من عمره، ثم حدثت البلوى التي ابتلاه الله بها، وقصته مع الشيطان، ثم نزل إلى الأرض، وقصة آدم مع إبليس، وإنزال آدم من الجنة إلى الأرض، هذا دليل قاطع على أن الجنة كانت موجودة، وأنها لا تزال موجودة؛ لأن آدم نزل من جنته الحقيقية إلى هذه الدنيا، وهو قول السلف.

وهذه الشبهات تلبس على من ليس عنده علم شرعي، وعلى من لم يكن عنده بصيرة في العلم الشرعي ولا يرجع إلى أهل العلم، فمن هذه الشبهات أولاً: أنها لو كانت مخلوقة لوجب أن تفنى يوم القيامة؛ لأن الله عز وجل وعد بفناء كل شيء، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، هذا أولاً.

ثانياً: قولهم: إن الجنة لو كانت مخلوقة لما قيل: إن غراسها التسبيح، فهذا دليل على أنها تُنْشَأ فيما بعد؛ بسبب أعمال العباد.

نقول: هذا دليل عليهم وسيأتي.

وكذلك قولهم عن امرأة فرعون: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:١١]، قالوا: هذا دليل على أن الجنة غير موجودة، إذ لو كانت موجودة لما دعت امرأة فرعون بأن يبني لها الله عز وجل بيتاً في الجنة، ولكان البيت مبنياً من قبل، لكنها طلبت بناء البيت فيما بعد.

هذه شبهات سيرد عليها المؤلف إجمالاً في الردود التالية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فالجواب أنكم إن أردتم بقولكم: إنها الآن معدومة بمنزلة النفخ في الصور، وقيام الناس من القبور، فهذا باطل، يرده ما تقدم من الأدلة وأمثالها مما لم يذكر، وإن أردتم أنها لم يكمل خلق جميع ما أعد الله فيها لأهلها، وأنها لا يزال الله يحدث فيها شيئاً بعد شيء، وإذا دخلها المؤمنون أحدث الله فيها عند دخولهم أموراً أخر، فهذا حق لا يمكن رده، وأدلتكم هذه إنما تدل على هذا القدر].

يعني: استدلالاتكم هذه لا تدل على أن أصل الجنة غير مخلوقة ولا موجودة، وإنما تدل على أن بعض نعيم الجنة يحدثه الله عز وجل على نحو ما ذكر وورد في النصوص؛ بسبب أعمال العباد التي وفقهم الله إليها، وبسبب أيضاً ما وعد الله به عباده يوم القيامة، إذا دخلوا الجنة أنه يحقق لهم كل ما يتمنونه من نعيم، فما يحققه الله عز وجل هو جديد، لكن أصل الجنة والكثير من نعيمها موجود ومخلوق الآن وقبل الآن.

قال رحمه الله تعالى: [وأما احتجاجكم بقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:٨٨]، فأتيتم من سوء فهمكم معنى الآية، واحتجاجكم بها على عدم وجود الجنة والنار الآن نظير احتجاج إخوانكم بها على فنائهما وخرابهما وموت أهلهما، فلم توفقوا أنتم ولا إخوانكم لفهم معنى الآية، وإنما وفق لذلك أئمة الإسلام، فمن كلامهم: أن المراد كل شيء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هالك، والجنة والنار خلقتا للبقاء لا للفناء، وكذلك العرش فإنه سقف الجنة، وقيل المراد: إلا ملكه.

وقيل: إلا ما أريد به وجهه.

وقيل: إن الله تعالى أنزل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا ف