[الاختلاف في تأويل القرآن المتضمن للإيمان ببعضه دون بعض]
قال رحمه الله تعالى: [وأما الاختلاف في تأويله الذي يتضمن الإيمان ببعضه دون بعض فكثير، كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:(خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه ذات يوم وهم يختصمون في القدر، هذا ينزع بآية، وهذا ينزع بآية، فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، فقال: أبهذا أمرتم؟ أم بهذا وكلتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ انظروا ما أمرتم به فاتبعوه، وما نهيتم عنه فانتهوا).
وفي رواية:(يا قوم بهذا ضلت الأمم قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتاب بعضه ببعض، وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض، ولكن نزل القرآن يصدق بعضه بعضاً، ما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه فآمنوا به).
وفي رواية:(فإن الأمم قبلكم لم يلعنوا حتى اختلفوا، وإن المراء في القرآن كفر) وهو حديث مشهور مخرج في المسانيد والسنن.
وقد روى أصل الحديث مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن رباح الأنصاري أن عبد الله بن عمرو قال:(هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب، فقال: إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب).
وجميع أهل البدع مختلفون في تأويله، مؤمنون ببعضه دون بعض، يقرون بما يوافق رأيهم من الآيات، وما يخالفه، إما أن يتأولوه تأويلاً يحرفون فيه الكلم عن مواضعه، وإما أن يقولوا: هذا متشابه لا يعلم أحد معناه، فيجحدوا ما أنزله من معانيه، وهو في معنى الكفر بذلك؛ لأن الإيمان باللفظ بلا معنى هو من جنس إيمان أهل الكتاب، كما قال تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}[الجمعة:٥].
وقال تعالى:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ}[البقرة:٧٨] أي: إلا تلاوة من غير فهم معناه، وليس هذا كالمؤمن الذي فهم ما فهم من القران فعمل به، واشتبه عليه بعضه فوكل علمه إلى الله، كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:(فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه) فامتثل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم].
قرر الشيخ في هذا المقطع قاعدة عظيمة من قواعد السلف، وهي من القواعد التي خالفت فيها جميع الفرق، وهي: أن السلف ومن تبعهم في مسألة تأويل القرآن وتفسيره يأخذون بأصول الاستدلال على وجهها الصحيح، فيستدلون في تأويل القرآن بتأويل القرآن بالقرآن، ثم تأويل القرآن بالسنة، ثم تأويل القرآن بفهم الصحابة، ثم بفهم السلف، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، وما ورد من نصوص القدر، أو نصوص العقيدة، أو غيبيات أو في أمر مشتبه عليهم، فما علمه المسلمون واستنبطوه عملوا به وآمنوا وقرروه، وما لم يتبين لهم معناه من أدلة العقائد والأحكام سلموا به، وهذه القاعدة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث، منها:(ما أمرتم به فاتبعوه، وما نهيتم عنه فانتهوا).
ومنها:(ما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به)، وهذه قاعدة عظيمة، بمعنى سلموا بالمتشابه؛ لأنه حق، وإنما قصرت أفهامكم عن إدراكه.