[ذكر الأقوال فيما يتناوله مسمى الكلام عند الإطلاق]
قال رحمه الله تعالى: [وللناس في مسمى الكلام والقول عند الإطلاق أربعة أقوال: أحدها: أنه يتناول اللفظ والمعنى جميعاً، كما يتناول لفظ الإنسان للروح والبدن معاً، وهذا قول السلف.
الثاني: أنه اسم للفظ فقط، والمعنى ليس جزء مسماه، بل هو مدلول مسماه، وهذا قول جماعة من المعتزلة وغيرهم.
الثالث: أنه اسم للمعنى فقط، وإطلاقه على اللفظ مجاز؛ لأنه دالٌ عليه، وهذا قول ابن كلاب ومن اتبعه.
الرابع: أنه مشترك بين اللفظ والمعنى، وهذا قول بعض المتأخرين من الكلابية].
هذه الأقوال الثلاثة كلها أقوال المتكلمين، أعني الثاني والثالث والرابع، وربما يشتبه الرابع مع الأول، فكأنهما بمعنى واحد، لكن بينهما شيء من الفروق، وهذه الفروق لا تتبين إلا من خلال اللوازم التي تلزم على كل قول.
فالقول الأول هو قول أهل السنة، بل قول جمهور أهل العلم وغالب أهل اللغة من غير المتكلمين، وهو أن كلمة الكلام إذا أطلقت تشمل اللفظ والمعنى جميعاً، وهذا أمر بدهي عند العقلاء قبل أن يأتي تشقيق العلوم والتفلسف فيها، ولو ترك الناس على بديهاتهم دون أن تدخل عليهم شبهات لما فهموا إلا ذلك، وهو أن الكلام يشمل اللفظ والمعنى، وأنه ما من كلام مفيد إلا وله معنى، وما من معنى مفيد يعبر عنه الناطق والمتكلم إلا ويكون التعبير عنه بلفظ.
والإشارة قد يعبر بها، لكن الإشارة تنوب عن الكلام إذا عدم الكلام أو عدمت آلته، وهذا أمر شاذ، وإلا فالأصل في الكلام أنه يشمل اللفظ والمعنى.
والقول الرابع الذي أشار إليه يختلف قليلاً عن القول الأول؛ لأن الذين قالوا به قالوا: إن الكلام مشترك بين اللفظ والمعنى، فقولهم: (مشترك) يعنون به أن كلمة (كلام) قد تطلق على اللفظ فقط وقد تطلق على المعنى فقط، وقد تطلق عليهما.
وهذا القول لجئوا إليه ليخرجوا عن إثبات الكلام لله عز وجل بحرف وصوت، فقالوا: نعم قد يطلق الكلام على اللفظ والمعنى، ولكنَّه أيضاً قد يطلق على اللفظ فقط، وقد يطلق على المعنى فقط.
وأهل السنة والجمهور من أهل العلم وأهل اللغة يقولون: الكلام إذا أطلق فلا بد أن يشمل اللفظ والمعنى، إلا إذا كان هناك ما يقيد، أو كان هناك قرينة، كأن يكون المعبر أخرص، فإنا نعرف أن إشارته ليست كلاماً إنما أراد معنى معيناً، فهذه قرينة، أو كان اللفظ يدل على إطلاق الكلام على أحد الأمرين: اللفظ أو المعنى، أما إذا أطلقت كلمة كلام فإنها تشمل اللفظ والمعنى، ولا يجوز أن تكون مشتركة بمعنى أنها قد تخص بأحد الأمرين بغير قرينة وبغير شاهد.
قال رحمه الله تعالى: [ولهم قول ثالث يروى عن أبي الحسن].
يقصد أبا الحسن الأشعري، وربما يكون هناك في الاسم تصحيف وتحريف، والله أعلم؛ لأنه نقل مثل هذا القول عن أبي الحسين الطبري، لكن روي عن الأشعري وليس هو المشهور عنه، فربما قاله في بعض مراحل حياته، أما المشهور عنه في الكتب الأخيرة فهو أنه ينفي هذا القول، بل إنه ساق في (المقالات) قول من قالوا بأن صفات الله مجازية -ومنها الكلام- بما يشبه الإنكار له ولم يؤيده، مع أنه إذا كان يؤيد الرأي فهو يقول به.
فعلى كل حال يمكن أن يكون هذا قولاً للأشعري، لكنَّه قول مغمور وليس هو المشهور عنه.
قال رحمه الله تعالى: [ولهم قول ثالث يروى عن أبي الحسن أنه مجاز في كلام الله، حقيقة في كلام الآدميين؛ لأن حروف الآدميين تقوم بهم فلا يكون الكلام قائماً بغير المتكلم، بخلاف كلام الله، فإنه لا يقوم عنده بالله، فيمتنع أن يكون كلامه، وهذا مبسوط في موضعه].