[مجمل القول في صلاة المرء خلف الإمام]
قال رحمه الله تعالى: [اعلم -رحمك الله وإيانا- أنه يجوز للرجل أن يصلي خلف من لم يعلم منه بدعة ولا فسقاً باتفاق الأئمة، وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه، ولا أن يمتحنه فيقول: ماذا تعتقد؟! بل يصلي خلف المستور الحال].
لا يجوز امتحان الأئمة، بمعنى أنه يكون مستور الحال فتمتحنه وتسأله في العقيدة، فهذه بدعة، فما دام أنه يصلي في جماعة يعرفونه، وألفوه ورضوه؛ فلا يجوز أن تمتحنه، إلا أن تكون من أهل الحسبة أو من أهل الولاية ممن لهم سلطة.
ويلحق بهذه المسألة التوقف والتبين كما يفعل جماعة التوقف والتبين الذين بدءوا يظهرون بدعهم، يقول أحدهم: أنا أتوقف في الصلاة خلف أي إمام حتى يتبين لي الحال، حتى إن بعضهم يعد في البلد الواحد الكبير أو في المدينة الكبيرة أربعة أو خمسة أشخاص يصلي خلفهم، والبقية لا يعرف حالهم، وهذه بدعة من بدع الخوارج.
قال رحمه الله تعالى: [ولو صلى خلف مبتدع يدعو إلى بدعته، أو فاسق ظاهر الفسق، وهو الإمام الراتب الذي لا يمكنه الصلاة إلا خلفه -كإمام الجمعة والعيدين، والإمام في صلاة الحج بعرفة ونحو ذلك-؛ فإن المأموم يصلي خلفه عند عامة السلف والخلف، ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر؛ فهو مبتدع عند أكثر العلماء.
والصحيح أنه يصليها ولا يعيدها؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار ولا يعيدون، كما كان عبد الله بن عمر يصلي خلف الحجاج بن يوسف، وكذلك أنس رضي الله عنه كما تقدم، وكذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيره يصلون خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان يشرب الخمر، حتى إنه صلى بهم الصبح مرة أربعاً، ثم قال: أزيدكم؟! فقال له ابن مسعود: ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة! وفي الصحيح أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لما حصر صلى بالناس شخص، فسأل سائل عثمان: إنك إمام عامة، وهذا الذي صلى بالناس إمام فتنة؟! فقال: يا ابن أخي! إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم.
والفاسق والمبتدع صلاته في نفسها صحيحة، فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته، لكن إنما كره من كره الصلاة خلفه؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب.
ومن ذلك: أن من أظهر بدعة وفجوراً لا يرتب إماماً للمسلمين؛ فإنه يستحق التعزير حتى يتوب، فإذا أمكن هجره حتى يتوب كان حسناً، وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره أثر ذلك في إنكار المنكر حتى يتوب أو يعزل أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه؛ فمثل هذا إذا ترك الصلاة خلفه كان في ذلك مصلحة شرعية، ولم تفت المأموم الجمعة ولا الجماعة].
كل هذا لا يتأتى إلا للمطاعين من الأئمة الكبار والعلماء المعتبرين، فلا يأتي طويلب علم ويطبق هذه القاعدة وهو مجهول مغمور، فلا ينفع فعله هذا بل قد يضر؛ لأن بعض الناس قد يجتهد ويقول: أنا أترك الصلاة خلف هذا الرجل من أجل أن يعرف الناس أنه صاحب بدعة وكذا وكذا، فنقول: إذا كنت إماماً متبوعاً وكلمتك مسموعة، وعملك هذا لا يؤدي إلى فتنة، فهذا لا حرج فيه.
إذاً: يشترط في مثل هذا أن يكون من إمام متبوع يطاع ويعتبر فعله وقوله وتصرفه، ويؤدي فعله هذا إلى نتيجة ولا يؤدي إلى فتنة ولا مفسدة.
قال رحمه الله تعالى: [وأما إذا كان ترك الصلاة خلفه يفوت المأموم الجمعة والجماعة؛ فهنا لا يترك الصلاة خلفه إلا مبتدع مخالف للصحابة رضي الله عنهم.
وكذلك إذا كان الإمام قد رتبه ولاة الأمور، ليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية، فهنا لا يترك الصلاة خلفه، بل الصلاة خلف الأفضل أفضل، فإذا أمكن الإنسان أن لا يقدم مظهراً للمنكر في الإمامة وجب عليه ذلك، لكن إذا ولاه غيره، ولم يمكنه].
يعني: كأن توليه السلطة أو الدولة، فلا يجوز للفرد أن يغيره إلا عن طريق الجهة المسئولة.
قال رحمه الله تعالى: [لكن إذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الإمامة، أو كان لا يتمكن من صرفه عن الإمامة إلا بشر أعظم ضرراً من ضرر ما أظهر من المنكر؛ فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بحصول أعظمهما، فإن الشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، فتفويت الجمع والجماعات أعظم فساداً من الاقتداء فيهما بالإمام الفاجر، لا سيما إذا كان التخلف عنها لا يدفع فجوراً، فيبقى تعطيل المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة].
هذه قواعد عظيمة يجب أن يدركها طلاب العلم، خاصة في الأزمان التي يقل فيها فهم هذه الأمور، فيجب أن تدرك وأن تشهر للناس؛ لأن الناس في وقتنا هذا بدأ خلطهم في هذه الأمور، واضطرابهم وعدم إدراكهم لفقه القواعد الشرعية، وهذه قواعد عظيمة عليها عمل السلف، حتى وإن وجدت بعض الشذوذات تخالفها، فلا اعتبار بذلك.
أعني: من أراد أن يتلقف من أقوال السلف وأفعالهم ما يخالف هذا فسيجد، لكنها أفعال قليلة