قال المصنف رحمه الله تعالى:[وكلما بعد العهد ظهرت البدع وكثر التحريف الذي سماه أهله تأويلا ليقبل، وقل من يهتدي إلى الفرق بين التحريف والتأويل؛ إذ قد سمي صرف الكلام عن ظاهره إلى معنى آخر يحتمله اللفظ في الجملة تأويلا، وإن لم يكن ثم قرينة توجب ذلك، ومن هنا حصل الفساد، فإذا سموه تأويلا قبل وراج على من لا يهتدي إلى الفرق بينهما].
بالنسبة للحديث عن التأويل ينبغي التنبيه على أمر من الأمور التي اختلطت على كثير من الناس خاصة في هذا العصر، وهي دعوى أن التأويل قد يدخل في العقيدة بأي وجه من الوجوه، وهذه دعوى باطلة بإطلاق جزماً؛ لأن العقيدة لا يمكن أن يرد فيها التأويل بأي معنىً من معاني التأويل عند من عرف التأويل من الأصوليين، والذين قالوا: التأويل هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لقرينة أو لدليل، تعريفهم هذا -مع سلامته عند الأصوليين- لا يمكن أن يسلم به في أمور العقيدة بإطلاق أبداً؛ لأن التأويل هو صرف اللفظ عن معنىً إلى معنى آخر، وعن لفظ إلى لفظ آخر، واللفظ المغاير يقتضي المعنى المغاير، وهذا الصرف لا يتأتى في أمر العقيدة؛ لأن العقيدة غيب، والغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فمن هنا لا يتأتى بأي حال من الأحوال أن يدعي بشر بعد النبي صلى الله عليه وسلم أنه باستطاعته أن يعطي معنى آخر لألفاظ الغيب، ومنها ألفاظ العقيدة، فألفاظ العقيدة استقرت على ما هي عليه، فعلى هذا يجب أن نقف على ألفاظها، ومعاني الألفاظ هي التي تفهم بما يمكن أن يفهمه البشر، وما لا يفهم يفوض علمه إلى الله سبحانه وتعالى، وهو الكيفيات، فمن هنا لا يتأتى التأويل في العقيدة أبداً، وما يرد من النصوص التي تشبه التأويل في العقيدة فإنما هو تفسير نص بنص، لا دخول للعقل فيه ولا لاجتهاد البشر، ولا يمكن لبشر أن يصرف لفظاً من ألفاظ العقيدة عن معنى راجح إلى معنى مرجوح؛ لأن الانتقال من معنى إلى معنى آخر يخرج المعنى الأول من اليقين إلى الشك، ثم يكون المعنيان كلاهما مشكوكاً فيهما ومظنوناً، وهذا لا يتأتى في العقيدة، بل ما كان كذلك لا يكون عقيدة، فلذلك اضطربت عقيدة المؤولة، كل من أول في العقيدة بأي نوع من أنواع التأويل فإن عقيدته مضطربة فيما أول فيه؛ لأنه خرج من المعنى الذي يريده الله إلى معنى آخر ليس عنده عليه برهان ولا دليل، والعقيدة غيب، ولو لم تكن غيباً ما صارت عقيدة، فأي أمر ينتقل من الغيب إلى عالم الشهادة لا يصبح من عالم الغيب ولا يكون عقيدة.
إذاً: فالتأويل في العقيدة لا يرد، إنما يرد التأويل في الأحكام؛ لأن أدلة الأحكام فيها الناسخ والمنسوخ، فيجوز صرف اللفظ من معنى إلى معنى آخر بقرينة النسخ، وكذلك ألفاظ الأحكام فيها المطلق والمقيد وفيها العام والخاص، وفيها ما يسوغ الخروج من لفظ إلى لفظ آخر، سواءٌ أكان هذا المسوغ دليلاً آخر أم قرينة أخرى أم قاعدة شرعية كبرى أم ضرورة أم خصوصية أم نحو ذلك.
أما العقيدة فلا يمكن أن يرد فيها تأويل، ولا نعرف أحداً من السلف وأئمة الدين قديماً وحديثاً ادعى أن في العقيدة تأويلاً، إذاً: فينبغي أن يفهم هذا؛ لأن هذه المسألة ستتكرر كثيراً في دروس العقيدة الطحاوية، وسيفرد لها باب إن شاء الله، وسيأتي لها مناسبة، لكن نذكر بها الآن ليفهم هذا.