[إطلاق الجماعة على المعتصمين بالحق التاركين للفرقة]
المعنى الثالث للجماعة: إطلاق الجماعة على المجتمعين على الحق، التاركين للفرقة، فالجماعة بهذا المفهوم هي ما عليه عامة المسلمين وسوادهم في أمورهم ومصالحهم العامة، خاصة من كان على سبيل الصدر الأول، فقد جاء في حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والجماعة رحمة، والفرقة عذاب) فإن الاعتصام بما عليه الجماعة رحمة ونجاة، والفرقة والشذوذ عنهم هلكة وضلال، يوجب العذاب.
والجماعة في هذا الحديث تعني: اجتماع أهل الحق على مصالحهم العليا، ويؤيد ذلك حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، ومن أراد بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة).
وقال أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه لما سئل عن الفتنة قال: عليك بالجماعة؛ فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة، ثم قال: إياك والفرقة؛ فإن الفرقة هي الضلالة.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الذي تكرهون في الجماعة خير من الذي تحبون في الفرقة.
وهذه قاعدة ذهبية عظيمة يجب أن يتوخاها طالب العلم، وأن يعلمها الناس، وأن يلقنها طلاب العلم؛ لأنها من أعظم القواعد التي تفيد عند الفتن والخلاف بين المسلمين، قال: (إن الذي تكرهون في الجماعة) أي: ما يحدث مما تكرهونه مما تجتمع عليه الكلمة، خير من الذي تحبون أو تميل إليه عواطفكم أو عقولكم، ما دام يؤدي إلى الفرقة، وما أحوج الناس وطلاب العلم بخاصة في هذا الوقت إلى هذه القاعدة العظيمة.
إذاً: يجب أن تحافظوا على الجماعة، ولو حدث ما تكرهون، فاصبروا على ما تكرهون تفادياً للفرقة، ولو ظننتم أن في الفرقة وصولاً إلى ما تحبون.
ليس المقصود ما تكرهون من الأمور التي لا تشتهي أنفسكم، أو ما تحبونه مما تشتهون، لا، إنما المقصود ما تحبونه في دين الله عز وجل، وما تكرهونه من الأمور التي تروا أنها ضد الدين، فيجب أن يكون هم المسلم أن تبقى الجماعة ولو على أدنى خيط من الاجتماع، فذلك خير من التهور، أو الوقوع في أمور قد تكون فاضلة ومطلوبة، وقد تكون محبوبة للنفس، لكنها لا تضمن معها الجماعة، وربما تؤدي إلى الفرقة.
وكذلك يؤيد هذا قول علي رضي الله عنه في مسألة بيع أم الولد، يخاطب الصحابة في عهده، قال: اقضوا ما كنتم تقظون؛ فإني أكره الاختلاف، حتى يكون للناس جماعة.
كأنه يقول: أنا أسلِّم لكم رغم أن لي رأياً أرى أنه هو الحق؛ لكن نظراً لأن الناس في فرقة، ويخشى عليهم الفتنة فقال: اقضوا ما كنتم تقضون، حتى يكون للناس جماعة.
وكذلك يؤيد هذا قول عبيدة بن عمرو السلماني رحمه الله، لـ علي رضي الله عنه، يقول: رأيك ورأي عمر في الجماعة، أحب إلي من رأيك وحدك في الفرقة.
وقد أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض الكلام عن طريق أهل السنة والجماعة، حيث قال: وسموا أهل الجماعة؛ لأن الجماعة هي الاجتماع وضده الفرقة، وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسماً لنفس القوم المجتمعين إلى آخر الكلام.