[سبب ضلال القدرية هو عدم التفريق بين المشيئة الكونية والمشيئة الشرعية]
القصد من ذلك أن منشأ الضلال -بمعنى انقداح الشبهة في أذهان كثير من القدرية النفاة، والقدرية الجبرية- ناتج عن أنهم لم يوفقوا للتفريق بين المشيئة والإرادة العامة، وبين الرضا والمحبة، فظنوا أن المشيئة والإرادة تعني المحبة والرضا، وظنوا أن الله لا يشاء شيئاً ولا يريده إلا وهو يحبه، فمن هنا اختلط عليهم الأمر، فلذلك يجب التفريق -وهذا أمر ضروري في التسليم للقدر- بين المشيئة والإرادة العامة، وبين المحبة والرضا التي هي الإرادة الخاصة والإرادة الشرعية.
فكل من الطائفتين نحت منحى في هذا الفهم الخاطئ، فمنهم من تصور المشيئة والإرادة تعني المحبة، فأعفى العباد من كل تكليف، وقال: إن الله قسرهم على ذلك، إذاً: لا يعذبهم، فمن آمن بالله يكفيه ذلك، ولا داعي لأن نحاسبه على أعماله وعلى ما يرتكبه من آثام، لأن كل ذلك بمشيئة الله، بمعنى أن الله راض عنه، وهذا غلط، نعم ذلك بمشيئة الله، لكن لم يرضه تعالى، وفرق بين المشيئة العامة وبين الرضا والمحبة.
والفريق الآخر لما انخدع بمثل هذه الشبهة ما استوعبوا في أذهانهم أن الله عز وجل شاء الضلال ثم عذب عليه؛ وهم بعض الجهمية والمعتزلة وبعض الجبرية، والقدرية الأولى هم الذين أولوا الصفات وأنكروا الصفات الفعلية، بل أنكروا بعض الصفات الفعلية، فأنكروا المحبة، وأنكروا الرضا لله عز وجل، فلما أنكروا ذلك زعموا أن الله لا يرضى بالمعنى الذي ورد في الشرع الذي آمن به السلف، ولا يحب بالمعنى الذي هو حقيقة المحبة، فمن هنا ألغوا من أذهانهم مفهوم المحبة والرضا، فلما نظروا في واقع البشر وجدوا أن البشر يعملون شروراً ويعملون آثاماً، والله شاء كل شيء، فما استطاعوا أن يوفقوا بين المشيئة العامة وبين أن يشاء الله الشر أو يقدره، فزعموا أنه لا يليق بالله أن يشاء ويقدر الشر، ثم بعد ذلك يحاسب عليه، وما تصوروا المحبة والرضا والإرادة الشرعية، بل وقفوا عند المشيئة العامة والإرادة العامة، فلما وقفوا وأشكل عليهم زعموا أن المخرج من ذلك أن تنسب أفعال الشرور والمعاصي إلى العباد أنفسهم، وأن الله لم يقدرها أصلاً، فلما فعلوا ذلك جعلوا خالقاً مع الله، وطعنوا في علم الله عز وجل، وطعنوا في مشيئة الله، وجعلوا لله نداً ومدبراً في الكون غير الله، فوقعوا في شيء مما فروا منه كما ذكر الشارح.
المهم أن منشأ الخطأ هو عدم التفريق بين الأمرين في القدر: بين المشيئة والإرادة العامة من ناحية، وبين الرضا من ناحية أخرى، فيجب أن يفهم المسلم أنه ليس كل ما يشاء الله ويقدره يرضاه، إنما قد يكون شاءه وقدره ابتلاءً كما هو معروف في أساس التكليف للعباد.