للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أفعال العباد خلق الله وهم فاعلون لها حقيقة]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد).

اختلف الناس في أفعال العباد الاختيارية].

أفعال العباد على نوعين: أفعال اختيارية، وأفعال غير اختيارية، أما الأفعال الاختيارية فالتي يفعلها العباد بمحض إرادتهم، وهذه لا تتأتى إلا من أفعال العقلاء، وغير العقلاء لا يخضعون في هذا؛ لأن أفعالهم قصرية، فمثلاً: المجانين والأطفال أفعالهم شبه قصرية، حتى وإن كان عند الطفل المميز شيء من الاختيار، لكنه غير مكلف، وعلى هذا فإن الحديث منصب على أفعال المكلفين العقلاء الذين يختارون أفعالهم الاختيارية، التي بمقدورهم أن يفعلوها أو يتركوها.

أما النوع الثاني: وهو الأفعال غير الاختيارية، وهي الأفعال القصرية المتعلقة بتسيير أحوال العباد في شئونهم الخاصة، وفي أنفسهم، وفي أجسامهم، مثل: حركة الدم، وحركة الجسم وغير ذلك من الحركات التي عُبِّر عنها الآن اللاإرادية، هذه أمور لا تدخل في هذا الكلام، إنما الداخل في هذا الكلام الذي سيأتي الخلاف فيه، هو أفعال العباد التي يفعلونها باختيارهم أو يتركونها باختيارهم، مما يستطيعونه ويقدرون عليه تركاً أو فعلاً.

قال رحمه الله تعالى: [فزعمت الجبرية -رئيسهم الجهم بن صفوان الترمذي - أن التدبير في أفعال الخلق كلها لله تعالى، وهي كلها اضطرارية كحركات المرتعش، والعروق النابضة، وحركات الأشجار، وإضافتها إلى الخلق مجاز، وهي على حسب ما يضاف الشيء إلى محله دون ما يضاف إلى محصِّله.

وقابلتهم المعتزلة، فقالوا: إن جميع الأفعال الاختيارية من جميع الحيوانات بخلقها، لا تعلق لها بخلق الله تعالى، واختلفوا فيما بينهم أن الله تعالى يقدر على أفعال العباد أم لا؟].

هنا ذكر الشارح أو نسب القول المخالف للمعتزلة، والمعتزلة هم الذين يقولون بأن الإنسان مختار لأفعاله اختياراً مطلقاً، ليس لله فيها تقدير ولا مشيئة، هذا هو قول القدرية، فهو نسبه إلى المعتزلة؛ لأن أشهر من تبناه في القرن الثاني وما بعده المعتزلة، وإلا فأصل هذا القول هو قول القدرية الأولى، قول معبد الجهني وغيلان الدمشقي ومن سلك سبيلهما.

والقدرية الأولى يقولون: لا قدر، أي: أن الله لم يقدر أفعال العباد المكلفين، وأن الأمر أُنُف، يعني: مستأنف، وأن أفعالهم حدثت بإرادتهم الكاملة، وليس لله فيها تقدير، بل بعضهم بالغ وقال: ليس لله فيها علم أصلاً، وهذا كفر محض، فمن أنكر العلم والتقدير فقوله كفر، حتى لو لم نكفره، ثم لما جوبه وقوبل هذا القول بشيء من الاستنكار حتى عند عوام الناس لطفته المعتزلة فيما بعد، وقالوا: نحن لا نقول بإنكار العلم السابق، إنما نقول بأن أفعال العباد من اختيارهم الاختيار المطلق، ومع ذلك فإن بعض المعتزلة حصروا هذه المسألة بأفعال الشر فقط، وقالوا: إن أفعال الشر هي التي ليست مقدرة من الله عز وجل، زعماً منهم أن هذا يقتضي التنزيه؛ لأنهم ظنوا أن الله عز وجل إذا قدر شيئاً فقد رضي به، ونسوا أن الله عز وجل قد يقدر الشيء من باب الابتلاء والفتنة، أو قد يقدره سبحانه بناء على ما سيفعل هذا الشخص في سابق علم الله، فهم ما استوعبوا قضية القدر، وحكموا عقولهم، فوقعوا في هذا، فمنهم من قال بأن جميع أفعال العباد العقلاء المكلفين ليست من تقدير الله إطلاقاً، إنما هي من أفعال العباد بحتة، حتى إن بعضهم صرح بأن الإنسان خالق أفعاله، وبعضهم حصر هذا في جانب فقط وهو جانب الشر.

إذاً: هذا هو قول القدرية، وليس كل المعتزلة يقولون به، إنما بعضهم يلطف العبارة.