قال رحمه الله تعالى:[فلا يتصور أن يتعارض عقل صريح ونص صحيح أبداً، ويعارض كلام من يقول ذلك بنظيره، فيقال: إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل]، وهذه هي القاعدة الصحيحة، فقلب القاعدة عليهم فقال:[إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل؛ لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع النقيضين، وتقديم العقل ممتنع]، وهذا الكلام مبني على مصطلحات الفلاسفة، وبعضها قد يكون مصطلحاً عقلياً صحيحاً يقول به الفلاسفة وغيرهم، يعني: من الأمور المنطقية التي يقول بها كل عاقل، فالجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، وقصده أنا إذا جاءنا خبر يثبت وخبر ينفي في قضية معينة، مثلاً: جاء واحد فقال: فلان مات وآخر قال: فلان لا يزال حياً، فعندنا خبران لهما مدلولان، خبر يفيد الحياة وخبر يفيد الموت، والمدلولان متناقضان؛ إذ الموت ضد الحياة.
فإذا جاء خبر بهذا وخبر بهذا؛ فلابد من الخروج من أحدهما إلى الآخر، ولا يمكن الجمع بينهما؛ إذ لا يمكن الجمع بين الموت والحياة، فنقول: هذا الرجل إما ميت وإما حي، إذاً: اجتمع عندنا مدلولان هما نقيضان، فهذان المدلولان لا يمكن أن نجمع بينهما ولا يمكن أن ننفيهما، فلا نقول: لا يمكن أن يكون حياً ولا ميتاً في وقت واحد، فرفعهما أيضاً مستحيل، وجمعهما مستحيل، إذاً: لابد من أن نرجح الحياة أو الموت، وهذا بتحقيق الخبر.
ومثال ذلك: مسألة شرعية واضحة، فالله عز وجل أخبرنا في كتابه وأخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة الصحيحة أن الله رفع عيسى إليه، فقال:{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ}[النساء:١٥٨] فرفع عيسى عليه السلام ثابت قطعاً بالكتاب والسنة، فهذا الخبر كثير من الناس يعرضه على عقله فيقول: لا يمكن أن يبقى إنسان حياً منذ آلاف السنين، فهنا اجتمع عندنا مدلولان: مدلول عقول هؤلاء البشر المنكرة الملحدة التي تقول: لا يمكن أن يكون عيسى حياً بزعمهم، ومدلول الخبر الذي جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم بأن عيسى حي يرزق في السماء وسينزل في آخر الزمان، فهل يمكن الجمع بين المدلولين؟ إنه -بناء على ما سبق- لا يمكن أن يكون حياً وميتاً في وقت واحد، وهل يمكن أن يقال: لا حي ولا ميت؟! لا يمكن، إذاً: لابد من أحدهما، فجاء الخبر عن الله تعالى عن طريق السمع والنقل يقول بأنه حي في السماء رفعه الله إليه، وعقول هؤلاء التافهة تقول بأنه لا يمكن أن يبقى حياً، فنأخذ بدلالة الشرع، وتقديم العقل هنا ممتنع؛ لأن العقل دل على صحة السمع، وإذا كانت عقول الناس المهتدية السليمة المستقيمة أثبتت أن ما جاء عن الله تعالى حق وصدق؛ فقد سلمت ابتداء، وهذه أيضاً مسألة مهمة كان المفروض أن نضعها قاعدة، ولا مانع من أن نضعها قاعدة، وهي أن العقل السليم هو الذي دلنا على صحة السمع، أي: صحة دلالة الكتاب والسنة، وإذا كان العقل السليم هو الذي دل على صحة الكتاب والسنة؛ فهذا يعني: أنه لابد من أن يسلم لهما بالبداهة، لاسيما أن العقل السليم يثبت عصمة الكتاب وعصمة ما صح من السمع، وإذا أثبت العصمة وجب عليه ألا يناقض هذا، ولذلك قد نأتي إلى بعض المتكلمين، ونقول له: أنت الآن استعملت عقلك في تأمل كتاب الله عز وجل.
فيقول: نعم، فنقول: ألم تدرك بعقلك أن كتاب الله حق؟ فيقول: بلى والله، أدركت هذا.
كما يقول الرازي وأمثاله، يقول: أدركت أن كلام الله حق وصدق لا يمكن أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
إذاً: ما دمت تقول: كلام الله حق وصدق، فكيف تقول: إذا تعارضا قدمت العقل؟! فإنك تكون بذلك قد نقضت قاعدتك وتسليمك، فالعقل السليم الذي سلم بأن الحق هو ما جاء عن الله وعن الرسول لو اعترض في جزئية من جزئيات الدين اعتراضاً عقلياً على الشرع يكون بذلك قد انتقض تسليمه كله على طول الخط؛ لأنه أولاً سلم ثم نقض تسليمه، فكذلك المتكلمون الذين قالوا بأن القرآن وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم حق، ثم جاءوا يقولون: ما تعارض مع العقل من الكتاب والسنة ندفعه أو نؤوله! فهؤلاء تناقضوا ونقضوا قاعدتهم؛ لأن العقل قد دل على صحة السمع، أي: قبول ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل، وإذا أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضاً للنقل.
فالشارح قلب الدليل عليهم، فنقول لهم: عقولكم التي سلمت بصحة دلالة النص ثم عارضت صارت مجروحة؛ لأنها شهدت بصحة الكتاب والسنة ثم بعد ذلك قدحت في دلالتهما، فرجع الجرح عليها، إذاً: فالعقل الذي تزعمون أنه معصوم أصبح مجروحاً بعملكم هذا، ولا يصلح أن يكون معارضاً للنص؛ فكان تقديم العقل موجباً عدم تقديمه، أي: فكان تقديم العقل على الشرع في الاعتبار موجباً عدم تقديم العقل على الشرع في الدلالة، وكان تقديم العقل على الشرع في الدلالة موجباً عدم تقديمه في الاعتبار.
يقول: إذا أردت أن تكرم العقل وتضع له منزلة فيجب ألا تقدمه على الشرع، فقوله:[فكان تقديم العقل] أي: تكريم العقل [موجباً عدم تقديمه]، أي: عدم تفضيل