[حفظ الله لدينه بعد انقضاء قرون الخيرية والاتباع]
قال رحمه الله تعالى: [ومضى على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم خير القرون، وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان، يوصي به الأول الآخر، ويقتدي فيه اللاحق بالسابق، وهم في ذلك كله بنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم مقتدون، وعلى منهاجه سالكون، كما قال تعالى في كتابه العزيز: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:١٠٨]، فإن كان قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:١٠٨] معطوفاً على الضمير في (أدعو)؛ فهو دليل على أن أتباعه هم الدعاة إلى الله، وإن كان معطوفاً على الضمير المنفصل؛ فهو صريح أن أتباعه هم أهل البصيرة فيما جاء به دون غيرهم، وكلا المعنيين حق.
وقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين، وأوضح الحجة للمستبصرين، وسلك سبيله خير القرون، ثم خلف من بعدهم خلف اتبعوا أهواءهم وافترقوا، فأقام الله لهذه الأمة من يحفظ عليها أصول دينها، كما أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم)].
حفظ الدين -كما هو معلوم- يقوم على ركيزتين من خلال استقراء النصوص وأقوال السلف: الركيزة الأولى: ما تكفل الله به من حفظ مصادره بحفظ الذكر وهو القرآن والوحي، وهذا ضمان من الله، فلذلك سخر الله من أهل العلم من حفظ الحديث إلى أن استقر وبان الصحيح من غير الصحيح، فهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى ما كانت تتهيأ لأمة من الأمم في الزمان الماضي.
إذاً: فالحفظ الأول هو حفظ الذكر نفسه، حفظ القرآن، ومعلوم أن الله تكفل بحفظه حتى إنه لم يستطع أحد أن ينال منه ولو بحرف من الحروف، وهذه معجزة.
ثم بحفظ السنة بالأسلوب العلمي الدقيق الرائع العجيب الذي اهتدى إليه السلف في ضبط الحديث درايته وروايته.
والركيزة الثانية من حفظ الدين: بقاء طائفة على الحق ظاهرين، وهذه الطائفة فسرت بتفسيرات، فمنهم من فسر هذه الطائفة بأهل الحديث وأهل العلم وأهل الفقه في الدين، وهذا يعني أن من كان على نهجهم فهو منهم، ولا يعني أنهم المقصودون فحسب، لكن لأنهم هم القدوة وهم الأسوة وهم المثل فسر بهم الحديث، ومن كان من عامة المسلمين على سمتهم ونهجهم فهو منهم.
ومنهم من فسره بأعم من هذا المعنى فقال: هم أهل العلم وعامة من كان على السنة.
والمعنى واحد ولا فرق، لكن أهل العلم نوهوا في تفسير حديث الطائفة المنصورة على ذكر أهل العلم؛ لأنهم هم الجماعة، وهم الذين تقتدي بهم الأمة، وهم الذين يحفظ الله بهم الدين علماً وعملاً، وغيرهم من عامة المسلمين إذا كانوا على هديهم فهم تبع لهم.
إذاً: حفظ الدين يقوم على الركيزتين: على حفظ مصادره وعلى وجود من يقوم به، فلا بد من أن يبقى من أهل العلم من هو حجة على الخلق إلى أن يأذن الله برفع العلم فيتخذ الناس رؤساء جهالاً فيفتوا بغير علم فيضلوا ويضلوا، وهذا في آخر الزمان.
قال رحمه الله تعالى: [وممن قام بهذا الحق من علماء المسلمين: الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي -تغمده الله برحمته- بعد المائتين؛ فإن مولده سنة تسع وثلاثين ومائتين، ووفاته سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة.
فأخبر رحمه الله عما كان عليه السلف، ونقل عن الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وصاحبيه أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الحميري الأنصاري، ومحمد بن الحسن الشيباني رضي الله عنهم ما كانوا يعتقدونه من أصول الدين، ويدينون به رب العالمين].