للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دليل القائلين بوجوب الاستثناء في الإيمان]

قال رحمه الله تعالى: [أما من يوجبه فلهم مأخذان: أحدهما: أن الإيمان هو ما مات الإنسان عليه، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمناً أو كافراً باعتبار الموافاة وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به، قالوا: والإيمان الذي يتعقبه الكفر فيموت صاحبه كافراً ليس بإيمان، كالصلاة التي أفسدها صاحبها قبل الكمال، والصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب، وهذا مأخذ كثير من الكلابية وغيرهم، وعند هؤلاء أن الله يحب في الأزل من كان كافراً إذا علم منه أنه يموت مؤمناً.

فالصحابة ما زالوا محبوبين قبل إسلامهم، وإبليس ومن ارتد عن دينه ما زال الله يبغضه وإن كان لم يكفر بعد! وليس هذا قول السلف].

هذا القول عند الكلابية فرع عن اعتقادهم أن أفعال الله عز وجل -ومنها المحبة والرضا والنزول والكلام وغير ذلك- أزلية قائمة بالذات غير مرتبطة بالمشيئة، فلذلك قالوا بهذه اللوازم، فجعلوا الحب والبغض لله عز وجل والكلام من الصفات اللازمة التي لا يحدث لله منها شيء، وأوضح ما يكون هذا في الكلام، فإنهم زعموا أن الكلام قائم بالنفس وأنه غير مرتبط بالمشيئة، وهذا يعني عندهم أن الله لا يتكلم متى شاء ولا كيف شاء، إنما كلامه معنى قد يعبر عنه بتعبيرات ترجع إلى تفسيرات كثيرة عندهم، فمن هنا قالوا: هو معنى قائم بالنفس، والذي يسمى كلام الله -كالقرآن- إنما هو عبارة عن كلام الله.

فالتزامهم لهذا الأصل هو الذي جعل بعضهم يقولون بعدم جواز الاستثناء في الإيمان وبملازمة المحبة للشخص منذ نشأته إلى وفاته، حتى وإن انقلب من الإيمان إلى الكفر أو من الكفر إلى الإيمان، فبحسب خاتمته تكون المحبة والبغض؛ لأنهم يرون أن الله عز وجل لا ترتبط محبته بمشيئته، فهم يرون أن تعلق أفعال الله بالمشيئة يعني أن الله يطرأ له شيء لم يكن، وهذا قياس لله عز وجل على خلقه، فالخلق هم الذين تطرأ عليهم هذه الطوارئ، ويطرأ عليهم البداء ونحو ذلك، وهذا لاشك أنه منفي عن الله عز وجل.

فالمهم أن الذين يوجبون الاستثناء في الإيمان -ومنهم بعض الكلابية- التزموا ذلك بسبب ما التزموه أصلاً من قولهم بأن الأفعال غير مرتبطة بالمشيئة، وهذا يذكرنا بما سبق تقريره من أن الأهواء تتجارى بأصحابها كما يتجارى الكلب بصاحبه، فيقولون بمقولة في جزئية معينة فيلزم من هذه المقولة أن تجرهم إلى أشياء أخرى في كثير من مسائل الدين، فالكلابية ما تكلموا إلا في مسألة كلام الله عز وجل وفي مسألة أزلية الصفات، أرادوا بذلك أن يقولوا: إنها أزلية غير مقترنة بالمشيئة ولا متعلقة بالمشيئة، وحينما التزموا ذلك ما توسعوا فيها أول الأمر، بل كان عندهم شيء من الحذر، لكن جاءت أجيال بعدهم من الأشاعرة والماتريدية فأخذت هذه القاعدة فنفت بها جميع صفات الله عز وجل، حتى إنها لم تثبت من الصفات إلا سبعاً، وهذه السبع أيضاً قالوا بأنها عقلية، وسموها الصفات العقلية.

وقد يقول قائل: ما صلة مسألة الاستثناء في الإيمان بمسألة أفعال الله وصفاته؟ أقول: حينما زعموا أنه لا يجوز أن تتعلق أفعال الله بمشيئته، وأنه لا يفعل كما شاء، وإنما فعله دائم ملازم له أبداً وإلى ما لا نهاية؛ قالوا: من ذلك ما يتعلق بإيمان المؤمن وكفر الكافر، فنظراً لأن المؤمن عند الله مؤمن حتى وإن كان في أول حياته كافراً؛ فإن محبة الله لازمة له حينما كان كافراً وحينما أسلم، كما أن المؤمن لا نجزم بمصيره، فقد يكون بغيضاً عند الله لأنه ربما يموت على الكفر، نسأل الله العافية، فنظراً لأننا لا نجزم بمصيره، وأن الله ربما كتب له البغض والكره لا يجوز له أن يقول: أنا مؤمن، بل لابد أن يستثني وجوباً، فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله.

قال رحمه الله تعالى: [وليس هذا قول السلف، ولا كان يعلل بهذا من يستثني من السلف في إيمانه، وهو فاسد؛ فإن الله تعالى قال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:٣١] فأخبر أنه يحبهم إن اتبعوا الرسول، فاتباع الرسول شرط المحبة، والمشروط يتأخر عن الشرط، وغير ذلك من الأدلة.

ثم صار إلى هذا القول طائفة غلوا فيه حتى صار الرجل منهم يستثني في الأعمال الصالحة، يقول: صليت إن شاء الله! ونحو ذلك، يعني القبول، ثم صار كثير منهم يستثنون في كل شيء، فيقول أحدهم: هذا ثوب إن شاء الله! هذا حبل إن شاء الله! فإذا قيل لهم: هذا لا شك فيه! يقولون: نعم، لكن إذا شاء الله أن يغيره غيره!].

هذا نوع من الوسواس، والذين قالوا بهذا القول إنما هم من المتأخرين، ولا يعرف هذا القول في القرون الثلاثة، إنما نسب إلى ابن شريك وأظنه كان في القرن السادس أو الخامس، وصار له بعض الأتباع، فصاروا يقولون في كل شيء: إن شاء الله، حتى المشاهد أمامهم يقولون: هذا فلان إن شاء الله، وهو نوع من الوسواس.

قال رحمه الله تعالى: [المأخذ الثاني: أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك ما نهاه عنه كله، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن بهذا الاعتبار فقد شهد لنفسه أنه من الأبر