للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاتجاهات العقلية الحديثة وريث للاتجاه الكلامي]

هذا إلزام واضح لأصحاب الاتجاهات الكلامية التي نسميها الآن في العصر الحديث الاتجاهات العقلانية، فالاتجاهات العقلية على مذهب المتكلمين تماماً في موقفهم الإجمالي من الدين، ولا أقصد بهم أولئك الذين تزندقوا وخرجوا عن الإسلام إلى تيارات وأفكار لا تنتسب للإسلام، إنما أقصد كثيراً ممن يسمون بالمفكرين الذين يحسبون على المفكرين الإسلاميين، وربما كان بعضهم من رواد الحركات الإسلامية الحديثة، فأصحاب هذا الاتجاه العقلاني هم على مذهب المتكلمين الذين يرد عليهم الشيخ هنا، ورد عليهم أهل السنة في مسألة الموقف من الدين ثم تحكيم العقل والتسليم له حينما يظهر عندهم التعارض بينه وبين الشرع، فهناك الآن مواقف واضحة من أمثال هؤلاء تجاه كثير من قضايا الدين، سواء النصوص أو الأصول الشرعية أو مناهج السلف في العقيدة والولاء والبراء وغير ذلك، فأكثرهم إذا جاء ما يصادم تفكيره أو معلوماته من أمور الشرع -سواء كان في الآيات أو الأحاديث- قال: هذا لا يعقل، ومن ثم يذهب بعضهم إلى التأويل المتكلف، وبعضهم ربما يرد النص ولا يبالي، ومن هنا نادى بعض الذين يسمون بالمفكرين الإسلاميين المعاصرين بوضع موازين جديدة للنظر إلى النصوص الشرعية غير الموازين التي عمل بها السلف، خاصة في الأحاديث، وقالوا: ينبغي أن نعيد النظر في تصحيح الأحاديث وتقويمها، ومن الضوابط التي يقترحونها لتقويم الأحاديث أنهم قالوا: إن ما لا يوافق العقل ولا يستقيم عند أهل الفكر من الأحاديث يرد، وضربوا لذلك أمثلة من الأحاديث الصحيحة المقطوع بها في البخاري ومسلم وغيرهما.

فجعلوا العقل هو المحكم، ولربما كان المتكلمون الأوائل أتقى وأورع وأكثر أدباً مع النصوص الشرعية من المعاصرين؛ لأن الأوائل تكلموا في معارضة العقل فيما يخفى على بعض من تنطمس فطرهم أو يتأثرون بالفلسفة، ولم يخوضوا في معارضة الواضح الجلي من نصوص الشرع.

أما المعاصرون فقد عارضوا الواضح الجلي من نصوص الشرع، واخترعوا أساليب ووسائل للأخذ بالدين غير الأساليب والوسائل التي ارتضاها النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته ثم نقلت عن الصحابة جيلاً بعد جيل إلى يومنا هذا.

إذاً: فالعقلانيون الذين رفعوا لواء تقديم العقل في العصر الحاضر هم امتداد للمتكلمة التي تقدم العقل على الشرع، لكن وسعوا الهوة وجروا هذه الاعتراضات حتى على الأحكام، أما الأوائل فلم يكن عندهم اعتراض على الأحكام، وإنما تكثر مسائلهم في الأمور العقلية.

أما هؤلاء الذين يعيشون الآن بين ظهراني المسلمين فقد ردوا كثيراً من الأحكام المتعلقة، خاصة ما يتعلق بالمرأة وما يتعلق بالولاء والبراء مع الكفار والفساق وأهل البدع وما يتعلق ببعض الأخلاقيات، فاعترضوا على ذلك بدعوى أن هذا لا يستقيم مع أحوال البشرية اليوم، أو لا يساير المدنية الحديثة أو نحو ذلك، وكل ذلك اعتراض عقلي على نصوص الشرع وأمور الدين.

والخلاصة: أن هذا الاتجاه لا يزال في الأمة، إلا أنه الآن أكثر ضرراً وأوسع في تخطيه لأصول الدين من المذاهب القديمة، وربما تأتي المناسبة -إن شاء الله- للحديث عن بعض هذه الاتجاهات في مقام آخر.