للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مناقشة الملاحدة]

فقال رحمه الله تعالى: [فإن قال: أنا لا أثبت شيئاً، بل أنكر وجود الواجب.

قيل له: معلوم بصريح العقل أن الموجود إما واجب بنفسه، وإما غير واجب بنفسه].

كلمة واجب وغير واجب فلسفة اضطر أهل العلم للتعبير بها لإلزام الخصوم من الملاحدة، وإلا فهي من العبارات المبتدعة التي لا يجوز أن تطلق على الله سبحانه وتعالى، لا باسم ولا بوصف، لكن قد يعبر للخصم الذي لا يؤمن بالكتاب والسنة، أو ألحد في كتاب الله وفيما ورد فيه من النصوص الثابتة بمفاهيمه ومصطلحاته لإلزامه بالحجة، فلذلك قد يحاج هؤلاء الذين ينكرون الأسماء والصفات، أو ينكرون وجود الله بمثل هذه الألفاظ من باب الإلزام العقلي.

إذاً: لا بد من فهم كلمة واجب الوجود وممكن الوجود، والقائم بنفسه والقائم بغيره، فواجب الوجود معناه: الذي يلزم وجوده ويضطر العقل لإثباته، وتفتقر إليه الموجودات، اللازم عقلاً بالضرورة، فيسمى واجب الوجود بنفسه؛ لأن الوجود خلاف العدم، فلذلك الله سبحانه وتعالى موجود، بمعنى أنه سبحانه وتعالى له وجود ذاتي، وكذلك المخلوقات موجودة، لكن المخلوق مفتقر إلى موجد، فيقال له: ممكن الوجود، أو: جائز الوجود، أو قائم بغيره؛ لأنه لا بد في وجوده من موجد، وهذا الموجد -وهو الله سبحانه وتعالى الخالق- واجب الوجود، بمعنى: لا يمكن أن نتصور أنه يحتاج إلى موجد ثان، فلا يمكن أن يتصور عاقل أن الموجد الذي أوجد المخلوقات القائم بنفسه الواجب الوجود -في تعبيرات الفلاسفة- محتاج إلى موجد ثان؛ لأنه لو قيل بموجود ثالث موجب لغيره لاحتاج الموجود الثالث إلى موجود رابع، والرابع إلى الخامس، وهذا يؤدي إلى التسلسل الذي لا يتناهي أبداً، فلا ننتهي إلى نتيجة، إذاً: لا بد عقلاً من الإقرار بواجب الوجود، أي: لازم الوجود الذي لا بد من أن يكون وجوده أزلياً لا بداية له، كما قال تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ} [الحديد:٣]، والأول -كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم- الذي ليس قبله شيء، فإذا كان ليس قبله شيء فليس له موجد، ولا بد من أن يكون هو الموجد، فالفلاسفة تعبر بواجب الوجود الذي يضطر العقل للقول بوجوده أزلاً، وليس قبله شيء.

قال رحمه الله تعالى: [فإن قال: أنا لا أثبت شيئاً، بل أنكر وجود الواجب.

قيل له: معلوم بصريح العقل أن الموجود إما واجب بنفسه، وإما غير واجب بنفسه، وإما قديم أزلي، وإما حادث كائن بعد أن لم يكن، وإما مخلوق مفتقر إلى خالق، وإما غير مخلوق ولا مفتقر إلى خالق، وإما فقير إلى ما سواه، وإما غني عما سواه، وغير الواجب بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه].

يعني أن الذي لا يوجد نفسه لا بد له من موجد، فالمخلوقات نعلم قطعاً أنها لا تستطيع أن توجد نفسها، فلا بد لها من موجد، والموجد هو اللازم وجوده بالضرورة أزلاً، وليس قبله شيء.

قال رحمه الله تعالى: [وغير الواجب بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه، والحادث لا يكون إلا بقديم، والمخلوق لا يكون إلا بخالق، والفقير لا يكون إلا بغني عنه، فقد لزم على تقدير النقيضين وجود موجود واجب بنفسه قديم أزلي خالق غني عما سواه، وما سواه بخلاف ذلك، وقد علم بالحس والضرورة وجود موجود حادث كائن بعد أن لم يكن].

يعني أن المخلوقات التي نراها ونحسها علم بالحس والضرورة أنها موجودة وكائنة وحادثة بعد أن لم تكن.

قال رحمه الله تعالى: [والحادث لا يكون واجباً بنفسه، ولا قديماً أزلياً، ولا خالقاً لما سواه، ولا غنياً عما سواه، فثبت بالضرورة وجود موجودين: أحدهما واجب والآخر ممكن، أحدهما قديم والآخر حادث، أحدهما غني والآخر فقير، أحدهما خالق والآخر مخلوق، وهما متفقان في كون كل منهما شيئاً موجوداً ثابتاً.

ومن المعلوم أيضاً أن أحدهما ليس مماثلاً للآخر في حقيقته؛ إذ لو كان كذلك لتماثلا فيما يجب ويجوز ويمتنع، وأحدهما يجب قِدمه وهو موجود بنفسه، والآخر لا يجب قِدمه ولا هو موجود بنفسه، وأحدهما خالق، والآخر ليس بخالق، وأحدهما غني عما سواه، والآخر فقير].

هذا القاعدة العقلية المعلومة بالضرورة تسري على كل من خالف النصوص الشرعية فيما يتعلق بصفات الله تعالى، ليست فقط في المنكرين لأسماء الله وصفاته أو الملاحدة الذين لا يؤمنون بوجود الله، إنما هي سارية على كل من خالف النصوص الشرعية، فالمؤولة الذين أولوا صفات الله فأثبتوا بعضها وأولوا بعضها، والمعطلة الذين أنكروا الصفات وأثبتوا الأسماء، أو الذين أنكروا الأسماء والصفات، هؤلاء كلهم يجمعون على أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الموجد الغني عما سواه، وهو القيوم القائم بنفسه القائم على خلقه، وهو سبحانه وتعالى مغاير للمخلوقات في كل شيء، -وهذه بدهية يعترفون بها، لكنهم نسوها عند الإثبات، فكان الأولى حينما أخبروا بصفات الله جل جلاله كصفة العين واليد والغضب والرضا والضحك والنزول- أن تستمر القاعدة معهم بأن يقولوا: هذه الصفات تليق بالله سبحانه وتعالى على خلاف صفات المخلوقين، بل هي مغايرة حتماً؛ لأن الله تعالى له الكمال المطلق وليس كمثله شيء، وكل صفة لله تعالى فهي كمال مطلق مغايرة