[أوجه اختلاف التنوع وحقيقته]
قال رحمه الله تعالى: [ثم إن أنواع الافتراق والاختلاف في الأصل قسمان: اختلاف تنوع، واختلاف تضاد.
واختلاف التنوع على وجوه: منه ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقاً مشروعاً، كما في القراءات التي اختلفت فيها الصحابة رضي الله عنهم حتى زجرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (كلاكما محسن).
ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان، والإقامة، والاستفتاح، ومحل سجود السهو، والتشهد، وصلاة الخوف، وتكبيرات العيد ونحو ذلك، مما قد شرع جميعه، وإن كان بعض أنواعه أرجح أو أفضل.
ثم تجد لكثير من الأمة في ذلك من الاختلاف ما أوجب اقتتال طوائف منهم على شفع الإقامة وإيتارها ونحو ذلك! وهذا عين المحرم، وكذا تجد كثيراً منهم في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع والإعراض عن الآخر والنهي عنه، ما دخل به فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنه ما يكون كل من القولين هو في المعنى القول الآخر، لكن العبارتان مختلفتان، كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود، وصوغ الأدلة، والتعبير عن المسميات ونحو ذلك.
ثم الجهل أو الظلم يحمل على حمد إحدى المقالتين، وذم الأخرى، والاعتداء على قائلها ونحو ذلك].
أغلب صور الخلاف الحاصل الآن بين أهل السنة من هذا النوع، هو من خلاف التنوع الذي يكون فيه اختلاف في العبارة، في حين أن المضمون واحد، أو يكون الاختلاف في مفهوم المسألة، يعني: تجد أن كثيراً من المختلفين الآن في قضايا خطيرة، يرجع اختلافهم إلى أنهم لم يحددوا مناط الاختلاف، أو حقيقة ما اختلفوا عليه، كل منهم في ذهنه مفهومه عن المسألة غير ما يفهمه الآخر، وهذا نوع من الإشكال والعبث بالألفاظ، وعلى هذا نجد في مسائل خطيرة الآن وكثيرة جداً، تنازع فيها أبناء المسلمين وطلاب العلم، ونجد أن سبب التنازع أن كلاً منهم يتكلم بمفهوم، والخلاف في الحقيقة خلاف على قضيتين مختلفتين.
نأخذ أمثلة على ذلك: أولاً: كلام كثير من طلاب العلم في الآونة الأخيرة عن مسألة: هل يعذر المبتدع أو العاصي أو الفاجر أو الظالم إلى آخره بالجهل أو لا يعذر؟ أكثر الذين يتكلمون في هذه المسألة فيما يظهر لي لم يحددوا ما هو مفهوم العذر بالجهل، ولم يحددوا ضوابط العذر بالجهل، فكل منهم في ذهنه مفهوم يتكلم به، ويختلف عما في ذهن الآخر، ويظن أنه يخالفه، في حين أن هذا في واد وهذا في واد.
خذوا مثالاً آخر: مسائل الدعوة ووسائلها، الآن القضية مرفوعة وحامية: هل وسائل الدعوة توقيفية، أو هي اجتهادية، الكثير ممن تكلموا عن وسائل الدعوة، ووسائل تعليم الدعوة مختلفون في تحديد معنى الوسائل والأساليب، تجد أن كل واحد قد حدد مفهومه في ذهنه خلاف المفهوم الذي عند الآخر، ومقصد أهل العلم أولاً أن يحددوا المفهوم والمقصود بالقضية التي فيها الخلاف، فإذا حررنا المفهوم، وكل واحد فهم القضية وفهم المقصود الآخر، فمن هنا ترجع القضية إلى أصولها الثلاثة كما وردت عند السلف.
ولذلك ذكر الشيخ الفاضل حدود وصيغ الأدلة، والتعبير عن المسميات ونحو ذلك، ثم قال: (ثم الجهل أو الظلم يحمل على حمد إحدى المقالتين، وذم الأخرى، والاعتداء على قائلها ونحو ذلك).
وأمثلة هذا كثيرة، منها: الكلام في المذاهب الفقهية، وهل المذاهب بدعة من البدع؟ فنجد أن الذي يذم التمذهب يذم التعصب المذموم لا يذم الابتداع والاتباع، والذي يجيز التمذهب يقصد التمذهب الذي هو الاتباع والاقتداء بأئمة الدين، فأكثر المسائل هذه سببت الفرقة وسببت عداوات وسوء ظن بين المسلمين، وردود، وردود على الردود، واستنزفت جهوداً من الأمة وطاقات يحتاجونها في تقرير السنة واجتماع الكلمة في الدفاع عنها، لكن مع الأسف أصبح الخلاف في كثير من الأمور اختلاف تنوع، وأكثر المخالفين أو المختلفين لا يدرون ولا يشعرون، فحمل بعضهم على بعض، وطغى بعضهم على بعض، وجهل كثير منهم مقالة الآخر إلى آخره.
أما مقولة: نتعاون على ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، فهذه مقولة فضفاضة مائعة ما لها قرار، وهي من الأمثلة التي يختلف عليها الناس من غير تحديد معنى.
فإذا كان مقصود القائل لهذه الكلمة: نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه في الاجتهاديات، فهذه قاعدة عظيمة من قواعد السلف، وإن كان قصده جميع ما يختلف فيه المسلمون، بما في ذلك البدع والضلالات، والشعارات والمناهج الخاطئة، والتيارات وغيرها، فهذا لا شك أنه خطأ وتفريط، ولا شك أنه منهج أهل البدع.
والذي ينبغي الإشارة إليه أنه فيما علمت من خلال استقرائي لهذه الكلمة أن (الإخوان المسلمون) رفعوا هذه الكلمة كشعار لهم، وهم يقصدون بها مداهنة أهل البدع، فهذه مشكلة تجعل بعض الناس يسيء الظن بهم، ويحكم بأنهم قصدوا بها مداهنة أهل البدع وأهل الأهواء.
وقد يكون منهم من يقصد المعنى الشرعي الصحيح، فمن هنا أقول: هذه الكلمة أصبحت الآن من الكلمات التي لا ينبغي رفعها كشعار؛ لأن أغلب الذين رفعوها رفعوها بقصد السكوت عن أهل البدع، وهذا واضح عند كث