للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ضرر التشبع بما يخالف الكتاب والسنة من العلوم]

وقد يقول قائل: كيف وهم أذكياء وعباقرة، وأخذوا علوماً منها العلوم الشرعية وتبحروا فيها، كيف لا يدركون تفاصيل العقيدة ويستوعبون ما جاء عن السلف؟

و

الجواب

أن المتأمل لحالهم يجد أنهم هم وأمثالهم ممن تشبع بعلم يخالف الكتاب والسنة قبل أن يستوعب العقيدة السلمية ويستوعب نصوص الشرع على نهج سليم، وتشبع بأفكار تخالف الكتاب والسنة أياً كانت، سواء كانت فلسفية أو أدبية أو تاريخية أو فكرية أو ثقافية أو غير هذا، يجد أنهم لابد من أن تؤثر تلك العلوم في أفكارهم وسلوكهم، حتى ولو استقاموا وتابوا، وأن تبقى آثارها فيهم إلى أن يموتوا، إلا النادر، والنادر لا حكم له، مع أن النادر استثناء؛ لأن الله عز وجل على كل شيء قدير.

أما التاريخ فلم يثبت لنا أن أحداً ممن تشبع بعلم غير الكتاب والسنة، ثم رجع الكتاب والسنة بقي سليماً أبداً، ولنأخذ مثالاً واحداً: فمن أصدق من رجعوا عن مذاهبهم الباطلة إلى الكتاب والسنة وأبلوا في ذلك بلاء حسناً أبو الحسن الأشعري رحمه الله، من أصدق من قرأنا له، وسمعنا عنه وعرفناه في التاريخ، واعترف له السلف بصدق رجعته، فقد كان معتزلياً تشبع بالاعتزال حتى الثمالة، وفجأة تاب من الاعتزال وتصدى للمعتزلة وأفحمهم، ويعتبر هو الرجل الثاني بعد الإمام أحمد رحمه الله في قمع الجهمية والمعتزلة.

ومع ذلك بقيت عنده آثار كلام المعتزلة إلى أن مات، بقيت في مذهبه حتى إنها صارت تكأة للأشاعرة، فدخلوا من سم الإبرة ووسعوه حتى كان أوسع من الباب، وظهر ذلك في نزعته في أفعال الله عز وجل، وكلام الله عز وجل موافقاً في ذلك ابن كلاب، وكذلك نزعته في علم الكلام، حيث قال: إن علم الكلام قد يفيد في رد شبهات المبطلين فقط.

فهو يرفض أن يقرر الدين بعلم الكلام رفضاً قاطعاً في كتاب (الإبانة) و (الرسالة إلى أهل الثغر) وغيرهما، فإنه كان يرفض علم الكتاب رفضاً قاطعاً، لكن يقول: إنه قد يفيد في رد شبهات المبطلين.

وقد خالفه السلف حتى في هذه، فقالوا: لا يجوز تعلم علم الكلام وإن كان قد يفيد، لا يجوز أن نضع قاعدة أو فتوى في تعلم علم الكلام، أو أنه مشروع تعلمه.

وهو خالف في هذه المسألة، ورأى أنه يمكن أن يتعلم علم الكلام من أجل الرد على المتكلمين، وحصل له في ذلك موقف مشهور حينما عارضه في ذلك إمام السنة في ذلك الوقت البربهاري مع ضعف القصة المشهورة، فضيق عليه وطرد من بغداد بسبب إصراره على أن علم الكلام قد يفيد، مع أنه يرى من حيث الاعتقاد أن علم الكلام كله باطل.

أقول: هذا شاهد على أنه لا يعرف أن أحداً تشبع بعلم غير الكتاب والسنة ثم رجع إلى الكتاب والسنة، وتاب من ذلك وسلم من أثر وغوائل العلم الذي تشبع به.

وهذا هو السبب الذي جعل هؤلاء الكبار من المضطربين، مع أن بعضهم من البحور في العلوم الشرعية الأخرى، تجد الواحد منهم في الفقه وأصول الفقه والتفسير إماماً، بل بعضهم أئمة في الحديث، ومع ذلك تجد فيه نزعة الكلام، فإذا رجع عن علم الكلام لا يهتدي إلى مذهب أهل السنة، لنقاوته وصفاوته ووضوحه وبيانه؛ لأنه قد يكون ذلك -والله أعلم- نوعاً من العقوبة على البدعة، وإن تاب وصلحت حاله.