[تعلق كلام الله تعالى وسائر أفعاله بمشيئته والرد على من خالف ذلك]
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (الذي هو من صفاته لم يزل) رد عَلَى من يقول: إنه حدث له وصف الكلام بعد أن لم يكن متكلماً].
هذا كلام موهم، وكأنه يفهم منه أن المعتزلة يقولون بأن الله يتكلم إذا شاء شيئاً بعد شيء، والمعتزلة لا يقولون هذا اعتقاداً، بل يقولون هذا على سبيل الرد، يقولون: إنكم إذا قلتم بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وإذا قلتم بأن التوراة المنزلة على موسى قبل تبديلها كلام الله غير مخلوقة، وإذا قلتم: إن ما كلم الله به موسى وغيره غير مخلوق؛ لزمكم أن الله يتكلم بالمشيئة والقدرة، وأنه يتكلم إذا شاء، وأنه يتكلم شيئاً بعد شيء، فيزعمون أن هذا باطل لأنهم يقولون: إن هذا يعني أن الله تقوم به الحوادث، تعالى الله عما يظنون، فهم يزعمون أنه إذا قيل: إن الله يتكلم متى شاء؛ لزم من ذلك بزعمهم وظنهم الفاسد أن الله حدث له شيء، والله منزه عن الحوادث.
وكلامهم الذي ذكره الشارح كلام مجمل، قد يقصدون به حقاً وقد يقصدون به باطلاً، ولا نرده لمجرد أنهم قالوه، بل نفصل فيه على نحو ما يأتي، لكن لكي يتضح الكلام الآتي ولا يلتبس نقول إجمالاً: مسألة أفعال الله تعالى مسألة متعلقة بمشيئته وقدرته عز وجل، فالسلف والذي عليه أهل الحق جميعاً أن جميع أفعال الله تعالى متعلقة بمشيئته، ومنها الكلام، ومعنى (متعلقة بمشيئته) أنه عز وجل فعال لما يريد، فإذا شاء تكلم متى شاء وكيف شاء، كما أنه ينزل عز وجل إلى السماء الدنيا متى شاء، ويجيء متى شاء سبحانه، فهذه الأفعال يسميها المعتزلة قيام الحوادث به، وهو تعبير فلسفي جاء به فلاسفة اليونان والصابئة الذين يرون أن ربهم فكرة مجردة، وهذه شبهة المعتزلة التي دخلت عليهم، حيث اقتنعوا بقناعة الفلاسفة الوثنيين الذين يقولون بأن الله فكرة مجردة، والفكرة المجردة لا يمكن أن يكون لها وجود ولا أن تكون في العلو ولا في الفوقية ولا أن تنزل ولا تجيء ولا تفعل، فجاءت هذه الأفكار إلى المعتزلة والجهمية فسحبوها على الغيب فقالوا: الله متصف بالأسماء الحسنى، لكن الصفات الفعلية التي تدل على الأفعال لا تمكن؛ لأن الله عندهم فكرة، والفكرة لا تفعل، وعبر بعضهم بأن الله مجرد عقل، وبعضهم عبر عنه بأنه روح، فهذه المعاني الباطلة حينما تشربوها ثم سمعوا النصوص الواردة في الصفات اصطدمت مع قناعاتهم ومع اعتقاداتهم، فزعموا أنهم يلزمهم أن ينزهوا الله عن الأفعال؛ لأن الله لا يقبل أن يفعل، فجعلوا الكلام على هذه القاعدة، فالكلام عندهم كلام معنوي نفسي قائم بالنفس؛ لأن فكرة وجود الله عز وجل أيضاً معنوية نفسية عقلية، فسحبوا هذه على هذه.
فمن هنا إذا أقروا بأن الكلام يتجدد أقروا بأفعال الله تعالى المتجددة على ما يليق بجلال الله تعالى، يعني أن الله يفعل متى شاء، وأن هذا الفعل يرى ويسمع، فالفعل الذي يرى ويسمع لا يمكن إلا أن يكون ممن تمكن رؤيته وسمعه على ما يليق بجلاله عز وجل، فمن هنا وصل الأمر عندهم إلى إنكار أفعال الله تعالى من أجل أن تسلم قاعدتهم الأولى في الاعتقاد في الله عز وجل وأسمائه وصفاته.
وليس الأمر في الكلام فقط، بل كل أفعال الله تعالى كذلك، فالكلام والاستواء والنزول والمجيء والعجب والضحك والرضا والسخط، كل هذه الأمور قالوا: لا تتعلق بالمشيئة، لأنه لا يمكن أن نقول: إن الله إذا شاء غضب، وإذا شاء لم يغضب، بل الغضب يعبرون عنه بإرادة الانتقام، أو يعبرون عنه بالعذاب الذي توعد الله به، والرضا هو الرحمة والجنة؛ فليس هناك صفة لله اسمها الرضا أو الغضب، كل هذا من أجل أن تسلم أصولهم.
وعلى أي حال الموضوع جاء في مناسبة الكلام عن كلام الله تعالى؛ نظراً لأن أول باب دخلوا فيه في التأويل هو مسألة كلام الله تعالى، فأول ما دخل التأويل على الفرق المتكلمة التي تابعت الفلاسفة وجميع المعتزلة في مسألة كلام الله تعالى، وأول من شق هذا الكلام وفتقه الكلابية، ثم تبعهم عليه الأشعرية والماتريدية وسائر أهل الكلام إلى يومنا هذا، فزعموا أن كلام الله تعالى معنى، فمن هنا لم يقولوا بالصوت ولم يؤمنوا بتعلق الكلام بمشيئة الله تعالى.