قوله:(يتذبذب بين الكفر والإيمان) هذا أحسن وصف لحال المتكلمين كما ذكر الشارح؛ لأن المتكلمين يزعمون أنهم على السنة، وهم يختلفون عن الفلاسفة الخلص كـ ابن سينا وابن رشد والفارابي وغيرهم ممن لا يتورعون عن إظهار احتقار الشريعة، واحتقار الأنبياء، فهم كالمستشرقين، فالفيلسوف يعترف بجوانب العظمة في الرسالة النبوية، وبما يبهر ظاهراً، ويقوله ويعتز به، لكنه لا يخضع للوحي ولا يسلم له، ويحصر الشرائع في أنها ظواهر تصلح لعامة الناس، وليست على مستوى العباقرة والمفكرين والعباد الكبار، هذا فهم الفلاسفة للإسلام وللدين والوحي.
فهم يعتبرون الوحي مفيداً، والشرائع مفيدة وهامة، لكنها لعامة الناس؛ لأن الأذكياء أمثالهم -كما زعموا- والعباقرة وكبار العباد وكبار الصوفية يستغنون عن الشرائع، وهؤلاء أرقى عند الفلاسفة من الأنبياء، ومذاهبهم أرقى من النبوة، وسلوكهم أرقى من الشريعة، ويصرحون بذلك، وليس عندهم في ذلك أي تحفظ، كـ ابن سينا وابن رشد وابن الفارض والفارابي والسهروردي وكذلك ابن عربي، وابن عربي من أفصحهم في هذه المسألة في كتبه التي كتبها في هذه الأمور.
أما أهل الكلام -وهم محل الحديث هنا- فإن عندهم شيئاً من اللبس، فهم يقدسون الشرع ويقدسون الوحي ويقدسون الدين، ويعتبرون للأنبياء منزلتهم، ويعترفون بمبدأ الخضوع للشرع وللدين، لكنهم يزعمون أن الشرع لابد أن يأتي بما يوافق العقل، أي: يضعون للعقل الاعتبار الأول، فمن هنا إذا جاءت بعض المسائل أو النصوص أو القضايا التي يرون أن العقل لا يستوعبها وقفوا فيها حائرين، فلا يثبتونها كما أثبتها الوحي، ولا يستطيعون أن ينفوها نفي التكذيب والجحود كما فعلت الجهمية وغلاة الفلاسفة، فيقفون حائرين؛ إذ لا يعترفون بالنص لأنه يخالف قواعدهم العقلية؛ ولا يستطيعون رده لأنه يخالف عقائدهم في الشرع من حيث إنه عندهم حق وصدق، فمن هنا وقعوا في الاضطراب.
وما من متكلم من المتكلمين الكبار هذا مبدؤه إلا وينتهي أمره بالحيرة وإعلان الإفلاس، والخضوع للشرع الخضوع المطلق، لكن بعد فوات الأوان؛ لأنهم تشبعت أفكارهم وعقولهم بعلوم وافدة طارئة محدثة، فلما أرادوا تصحيحها لم يتمكنوا، فسلموا تسليم العجائز كلهم، الرازي، والغزالي، والجويني، والشهرستاني، والخسروشاهي وغيرهم ممن سيأتي ذكرهم، كلهم ينتهون بالتسليم الفطري، أو تسليم العجائز الذي ليس فيه قدرة على إدراك التفاصيل.