[أزلية أفعال الله وحدوث المخلوقات]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق، ولا بإحداثه البرية استفاد اسم الباري: ظاهر كلام الشيخ رحمه الله تعالى: أنه يمنع تسلسل الحوادث في الماضي، ويأتي في كلامه ما يدل على أنه لا يمنعه في المستقبل، وهو قوله: (والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا ولا تبيدان)، وهذا مذهب الجمهور كما تقدم، ولاشك في فساد قول من منع ذلك في الماضي والمستقبل كما ذهب إليه الجهم وأتباعه، وقال بفناء الجنة والنار؛ لما يأتي من الأدلة إن شاء الله تعالى.
وأما قول من قال بجواز حوادث لا أول لها من القائلين بحوادث لا آخر لها؛ فأظهر في الصحة من قول من فرق بينهما؛ فإنه سبحانه لم يزل حياً، والفعل من لوازم الحياة، فلم يزل فاعلاً لما يريد كما وصف بذلك نفسه حيث يقول: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:١٥ - ١٦]].
ملخص هذا الكلام أنه يجب أن نفرق في التسلسل بين أمرين: بين التسلسل في أفعال الله تعالى وبين التسلسل في الأسباب والمؤثرات، فالتسلسل في أفعال الله تعالى واقع، بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى أفعاله لا تنتهي، كما أنها في الأزل، ولا يمكن أن نقول: إنها حدثت استئنافاً، خاصة فيما يتعلق بقدرة الله على الأفعال، فالله سبحانه وتعالى خالق قبل أن يوجد الخلق، وحينما وجدت المخلوقات علم أن قدرة الله على الخلق متجددة، وهذا في الأزل وإلى الأبد؛ لأن الله هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، وأوليته أولية مطلقة في أفعاله وأسمائه وصفاته.
وكذلك التسلسل في أفعال الله الأخرى غير مسألة الخلق، كمثل مسألة الكلام، فالله سبحانه وتعالى متكلم على ما يليق بجلاله، حتى قبل أن يحدث الكلام منه سبحانه فيما يخص الخلق؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعلمنا بأنه تكلم فيما يتعلق بمصالح العباد، كتكلمه بالقرآن، وندائه لخلقه يوم القيامة ونحو ذلك، فهذا ما نعلمه، وما لا نعلمه لا ينتهي، فالله قدرته مطلقة، وهو متصف بصفة الكلام منذ الأزل وإلى ما لا نهاية، وهذا يعني: أن الله يتكلم متى شاء، فهذا معنى التسلسل في أفعال الله تعالى، فأفعال الله تعالى ليس لها بداية وليس لها نهاية، وهذا يعني الكمال المطلق.
لكن الممنوع هو التسلسل في المؤثرات، أي: في المخلوقات، في تأثر المخلوقات، أو تأثير بعض المخلوقات في بعض، فالمخلوقات قد يكون بعضها علة لآخر، فالإنسان مخلوق من طين ثم يعود إلى طين ثم يبعث يوم القيامة، وهكذا تتسلسل أحواله، فهذا التسلسل في المخلوقات لابد من أن ينتهي، بمعنى: أن علة الشيء لا تبقى علة إلى الأبد.
إذاً: فالتسلسل في الأسباب والمؤثرات ممتنع، أما التسلسل في أفعال الله تعالى فلا نهاية له، وهذا أمر لا يمكن أن يدرك على وجه التفصيل والإحاطة، فأفعال الله لا يمكن أن تدرك على وجه التفصيل والإحاطة، وكل ما تكلم به المتكلمون في أفعال الله تعالى إنما هو رجم بالغيب وتوهم لا حقيقة له، فالله أعظم وأجل من أن تحيط عقول البشر بما يتعلق بذاته وأفعاله سبحانه.
فالتسلسل في المخلوقات وربط بعضها ببعض أو انبثاق بعضها عن بعض أمر لابد من أن يكون له نهاية، وإلا وقعنا في الدور؛ لأن كل سبب له سبب إلى ما لا نهاية، وهذا لا يمكن، من أجل أن نقول: إن الله سبحانه وتعالى هو الخالق وهو الفعال لما يريد.
أما أفعال الله تعالى فلا يجوز أن نتصور أن لها نهاية ولا بداية بمفهومنا المحدود بالبداية الزمنية، والأولى ألا نخوض بمثل ما خاض به الخائضون، لكن دفعاً لشبهاتهم التي لا تندفع إلا بمثل هذا الكلام الضروري كان لابد من الكلام، والسلف اضطروا للكلام في هذه المسائل لمقاومة تيار المتكلمين الذي ساد في الأمة، حتى إنا نجد الآن ومنذ زمن بعد القرون الثلاثة الماضية أن أغلب من ينسبون إلى العلم مبتلون بعلم الكلام، فإذا كان كذلك فلابد من البيان.
فالقول بمنع تسلسل الحوادث في الماضي معناه: أنه يمتنع أن تكون المخلوقات بعضها سبباً لبعض إلى ما لا نهاية له في الماضي، فلابد من أن تكون المخلوقات قد بدأت بخلق الله تعالى بكلمة (كن) أو بما قدره الله سبحانه وتعالى في خلقه وفعله.
وأما في المستقبل فالله أخبرنا بأن هناك أبدية لا تنتهي، وهي أبدية الجنة والنار، فهذا يعني أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أخبرنا بأن هناك من مخلوقاته ما لا ينتهي، فيبقى احتمال التسلسل في المفعولات في المستقبل وارداً بقدرة الله سبحانه وتعالى، وهذا رأي بعض أهل العلم، ومع ذلك فإن أمر المستقبل اللامتناهي أمر لا يمكن أن تحيط به العقول.
لكن نظراً لأن جهماً زعم أنه لا يمكن أن تتسلسل الحوادث مستقبلاً، ومن هنا قرر بزعمه أن الجنة والنار تنتهيان وتبيدان؛ تكلم بعض أهل العلم في هذه المسألة وقالوا: إن التسلسل في المستقبل ليس له نهاية بقدرة الله سبحانه وتعالى في بعض المخلوقات.
وهذه المسألة لولا أنها في الكتاب والتزمنا أن نقرأ الكتاب لما جئنا بها أبداً، فأنتم -بحمد الله- كلكم عل