قال رحمه الله تعالى: [وقد ورد في ذم القدرية أحاديث في السنن، منها: ما روى أبو داود في سننه من حديث عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القدرية مجوس هذه الأمة؛ إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم)، وروي في ذم القدرية أحاديث أخر كثيرة تكلم أهل الحديث في صحة رفعها، والصحيح أنها موقوفة، بخلاف الأحاديث الواردة في ذم الخوارج].
الأحاديث الواردة في المرجئة وفي القدرية لا تصح، لكن نسبة قول القدرية إلى المجوس وقول المرجئة إلى النصارى نسبة صحيحة، من حيث الأصول والمناهج؛ لأنه ثبت عند السلف بالاستقراء أن مقولة القدرية هي فرع عن مقولات الأمم الماضية، وهي أقرب إلى مقولة المجوس، وطوائف من الصابئة، وطوائف من اليهود، وطوائف من النصارى، القول بالقدر لم يكن وليد الأهواء عند المسلمين، بل كان امتداداً لما كان عليه الأمم السابقة خاصة المجوس؛ لأن المجوس جعلوا مع الله عز وجل إلهاً آخر، سموه: إله الشر، وشبهتهم في ذلك أنهم زعموا أنه لا يليق أن يكون الله عز وجل خالق الشر ولا مقدراً له، فمن هنا نشأ عن قولهم اعتقادهم بأن هناك إلهاً آخر قدر الشر وخلقه، هذه هي الفكرة والشبهة الموجودة عند المعتزلة، الذين زعموا أن الإنسان يستقل بأفعاله من دون تقدير الله لها.
فمن هنا نقول: القول بالقدر أشبه ما يكون وأقرب ما يكون إلى قول المجوس، وهو امتداد لمقولة المجوس، وهذه المقولة موجودة عند كثير من الأمم أيضاً، وليست في المجوس فقط، فاليونان مثلاً: عندهم آلهة للخير وآلهة للشر، وكذلك عند كثير من الأمم الوضعية، لكن المجوس أقرب الناس تأثيراً في المسلمين، وأيضاً المجوس كانت صفتهم ظاهرة في هذا الأمر، فهم أثبت من غيرهم من الأمم في هذه المقولة.
قال رحمه الله تعالى:[فإن فيهم في الصحيح وحده عشرة أحاديث: أخرج البخاري منها ثلاثة، وأخرج مسلم سائرها، ولكن مشابهتهم للمجوس ظاهرة؛ بل قولهم أردأ من قول المجوس؛ فإن المجوس اعتقدوا وجود خالقَينِ، والقدرية اعتقدوا خالقِينَ!! وهذه البدع المتقابلة حدثت من الفتن المفرقة بين الأمة كما ذكر البخاري في صحيحه عن سعيد بن المسيب قال: وقعت الفتنة الأولى -يعني: مقتل عثمان - فلم تبق من أصحاب بدر أحداً، ثم وقعت الفتنة الثانية -يعني: الحرة- فلم تبق من أصحاب الحديبية أحداً، ثم وقعت الثالثة فلم ترتفع وللناس طباخ.
أي: عقل وقوة.
فالخوارج والشيعة حدثوا في الفتنة الأولى، والقدرية والمرجئة في الفتنة الثانية، والجهمية ونحوهم بعد الفتنة الثالثة، فصار هؤلاء الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، يقابلون البدعة بالبدعة، أولئك غلوا في علي، وأولئك كفروه! وأولئك غلوا في الوعيد حتى خلدوا بعض المؤمنين، وأولئك غلوا في الوعد حتى نفوا بعض الوعيد -أعني: المرجئة-، وأولئك غلوا في التنزيه حتى نفوا الصفات، وهؤلاء غلوا في الإثبات حتى وقعوا في التشبيه، وصاروا يبتدعون من الدلائل والمسائل ما ليس بمشروع، ويعرضون عن الأمر المشروع، وفيهم من استعان على ذلك بشيء من كتب الأوائل: اليهود، والنصارى، والمجوس، والصابئين؛ فإنهم قرءوا كتبهم، فصار عندهم من ضلالتهم ما أدخلوه في مسائلهم ودلائلهم، وغيروه في اللفظ تارة، وفي المعنى أخرى، فلبسوا الحق بالباطل وكتموا حقاً جاء به نبيهم، فتفرقوا واختلفوا، وتكلموا حينئذ في الجسم والعرض والتجسيم نفياً وإثباتاً].