للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[منكرو الرؤية]

وأول من أنكر الرؤية من الفرق الجهمية، أما الأشخاص فإن أول من اشتهر عنه إنكار الرؤية الجعد بن درهم ثم الجهم بن صفوان.

وقد نسب إنكار الرؤية إلى غيلان بن مسلم، لكن لم يثبت عنه أنه أنكر الرؤية صراحة كما أنكرها الجعد بن درهم والجهم بن صفوان، وإنكار الرؤية ناتج عن تعلق هؤلاء بالقواعد الفلسفية التي عليها فلاسفة اليونان وفلاسفة الصابئة الذين نهجوا نهج تقرير أمور الغيب وغيرها بالعقليات وجانبوا سبيل الأنبياء، فالفلاسفة في العموم الأصل فيهم عداوة الأنبياء وما جاءوا به من الحق والشرائع.

والجهمية أتباع الجهم بن صفوان أبرز ما عندهم من الأصول إنكار الأسماء والصفات، وإنكار الرؤية، وإنكار كلام الله عز وجل، والقول بأن القرآن مخلوق، والمعتزلة تبع لهم في هذه الأصول، إلا أنهم يختلفون عنهم في التفصيلات، فالمعتزلة تنكر الصفات ولا تنكر الأسماء، لكنها تقول بنفي الرؤية وبخلق القرآن ونحو ذلك من أصول الجهمية.

وقوله: [ومن تبعهم من الخوارج] يقصد بذلك أن كل الفرق التي أنكرت الرؤية أنكرتها اتباعاً للجهمية والمعتزلة، والإمامية يقصد بها الرافضة الإثني عشرية، وعموم الرافضة ينكرون الرؤية، لكن أشهرهم الإمامية، فهؤلاء في إنكارهم للرؤية تبع للجهمية والمعتزلة، ولم يأتوا بجديد حتى في أدلتهم العقلية، فما سموه بالأدلة العقلية من شبهاتهم، والأسلوب الذي ردوا به النصوص أو أولوها لا يخرجون في ذلك عن الجهمية والمعتزلة بشيء من الأشياء، والخوارج الذين أنكروا الرؤية ووقعوا فيما وقعت فيه الجهمية في سائر الأصول هم الخوارج المتأخرون الذين ظهروا في القرن الثاني وما بعده.

أما الخوارج الأولون فلم يكن هذا مشهوراً عنهم، كما أنه لم يكن مشهوراً عن غيرهم، بمعنى أن أصول الخوارج الأولى ليس فيها إنكار الرؤية، لكن -كما هو معروف- تتجارى بجميع أهل الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنهم تستهويهم الأصول الفاسدة بسبب جدالهم للفرق الأخرى من الجهمية والمعتزلة، فيلزمونهم بأمور عقلية لا ينفكون عنها، وبسبب ما اتسموا به من المخالفة لأهل السنة، كان من عادتهم أن كل شيء يخالف أهل السنة يعتنقونه لوجود أصل المخالفة عندهم وتبييت هذا الأصل واستصحابه في كل حال.

إذاً: فالخوارج اعتنقوا القول بعدما اشتهر عن الجهمية والمعتزلة أثناء الحوار معهم، وعلى هذا فإن الخوارج من القرن الثاني وما بعده يقولون بإنكار الرؤية، ومن أشهرهم الإباضية، فالإباضية ينكرون الرؤية، والإباضية فرقة من فرق الخوارج الكبرى الأربع التي تشعبت عن الخوارج بعد سنة أربع وستين للهجرة، فالخوارج كانوا فرقة واحدة إلى سنة أربع وستين، فافترقوا إلى أربع فرق: الأزارقة، والنجدات، والصفرية، والإباضية، فالذين بقوا منهم في القرن الثاني من هذه الفرق الأربع كلهم قالوا بإنكار الرؤية ما عدا فئات قليلة منهم، وكذلك الإباضية، وإلى اليوم والإباضية تنكر الرؤية أو أكثرهم، ومنهم من يدعي الآن من مثقفيهم وبعض طلاب العلم فيهم أنهم لا ينكرون الرؤية، ويظهر لي أن هذا منطق جديد قال به بعضهم حينما رأوا قوة أهل السنة وقوة حجتهم، وإلا فالأصل في الإباضية إلى يومنا هذا أنهم ينكرون الرؤية وآخر ما قرأنا عنهم وسمعنا ما كتبه شيخهم أحمد الخليلي في كتاب له يقال له: (حق الدهر) أنكر فيه الرؤية، وساق أدلة الجهمية والمعتزلة في إنكار الرؤية.

أما الإمامية فكذلك ما كانوا يعتقدون هذه الأمور -كإنكار الرؤية- إلا في القرن الثاني وما بعده في أثناء نقاشهم للجهمية والمعتزلة، وعلى هذا أخذوا بمبدأ إنكار الرؤية إلى اليوم، فأغلب الإمامية يقولون بإنكار الرؤية على نحو ما تقول به الجهمية.