[وقفات مع تصوير النهاية المؤلمة للمتكلمين في كلام الرازي في قصيدته]
نرجع إلى القصيدة، فالقصيدة -في الحقيقية كما قلت- فيها أبلغ تعبير يصور النهاية المؤلمة للمتكلمين والإفلاس الذي يصلون إليه بعد عناء طويل، حينما تكلموا في ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وفي سائر أمور الغيب والسمعيات بمجرد الفلسفة والعقليات والظنيات، ظناً منهم أنهم سيصلون إلى الحق بأدلة وبراهين قاطعة، وأخيراً يتبين لهم أنهم لم يصلوا إلى الحق، وأن أدلتهم وبراهينهم ليست قاطعة، بل وهمية، ويتبين لهم أن طريقة القرآن في الإثبات والنفي -وهي طريقة السلف- هي الطريقة السليمة التي تستقيم معها العقول وترتاح لها الفطرة، ويسلم فيها الدين والذمة والضمير.
يقول: (نهاية أقدام العقول عقال): وقصده بذلك أن إقدام العقول وجرأتها على الغيبيات تنتهي في الأخير إلى العقال، وهو الحبل الذي يقيد به الجمل لئلا يتحرك، فكأنه يقول: إن العقول إذا اقتحمت أمور الغيب؛ فإنها تقيد وتصل إلى نهاية تأسرها عن أن تنطلق إلى الحق وصفاء الفطرة.
فنهاية إقدام العقول على ما لا تدركه عقال، يعني: أنها تقف حائرة لا تستطيع أن تمشي خطوة إلى الحق ولا إلى المنهج السليم.
يقول: (وغاية سعي العالمين ضلال): وهذا تعبير عن واقع المتكلمين، يظنون أن الناس كلهم تبع لهم، وأن العالمين ينتظرون من هؤلاء العباقرة المفكرين النتيجة التي يرتاحون إليها في عقيدتهم.
فيقول: وغاية سعي العالمين في هذا المجال من فلاسفة ومتكلمين وغيرهم ضلال، أي: آخر ما ينتهون إليه الضلالة، وهذا فعلاً واقع المتكلمين.
ثم قال بتعبير نفسي لا أظن أحداً ممن لم يجرب يستطيع أن يعبره: (وأرواحنا في وحشة من جسومنا)؛ لأنه جعل روحه تسيح فيما لا طاقة لها به فتقلق وتعيش عيشة النكد؛ لأنه يبحث عن الحق فلا يجده، وأي إنسان ينشد الحق ثم لا يجده لابد من أن يعيش في قلق، إلا إذا اعتصم بالله عز وجل، وبكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه لابد حينئذٍ من أن يسلم تسليم الموقن المرتاح الضمير، أما من لم يفعل ذلك فإنه لا يهدى ولا يستطيع أن يسلم تسليم الموقن؛ لأنه ترك طريق اليقين.
يقول: (وحاصل دنيانا أذىً ووبال).
هذا حاصل ما سعوا إليه في دنياهم، غاصوا في علم الكلام، ثم أخيراً ما وجدوا إلا الأذى والوبال، أذى الضمير وأذى النفس وأذى الروح، ووبال الشكوك ووبال الترهات والظنون والأوهام التي تجعل الإنسان يعيش في حيرة، فربما توصله حيرته إما إلى الكفر وإما إلى الإفلاس، وإما إلى التسليم بالفطرة التي يسلم بها أجهل الناس وعامتهم من العجائز ونحوهم.
يقول: (ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا): يقصد نفسه وأمثاله، وإلا فالذين يطلبون العلم على نور مستفيدون، لكنّه يعبر عن نفسه وعن أمثاله، فيقول: ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا وهذا والله صحيح، فكتبهم مليئة بهذا، وكان هو من أكثر الناس افتراضاً للقول، إذا ما وجد عند الفلاسفة وعند المتكلمين الذين سبقوه قولاً افترض هو افتراض الظن من عند نفسه، فيقول: فإن قيل قلنا، وإن قالوا قلنا إلى آخره، كما تجده في تفسيره.
وكثيراً ما يعتز بهذا، يثير الشبهة ولا يعالجها، بل أحياناً يثير الشبهة ويرد عليها، ثم إذا رد وانتهى من الرد وكاد يقنع القارئ قناعة وهمية، قال: ويرد على هذا إشكال، ثم يورد على القناعة إشكاله.
وهذا معنى قوله: (قيل وقالوا)، فما عند المتكلمين إلا قيل وقالوا، أما (قال الله وقال رسوله) فهذا مما جفوه وابتعدوا عنه.
يقول: فكم قد رأينا من رجال ودولة فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا هذا شعور كل إنسان، فكل إنسان حينما يستعرض ماضيه يجد أن الدنيا تطوى من ورائه، لكن فرق بين شعور وشعور، فالسليم العقيدة المرتاح الضمير لا ينزعج من انطواء الدنيا خلفه، بل يزداد حباً للخير وإقبالاً على الله عز وجل، ويعرف أن هذا مصير الإنسان، فالدقيقة -بل الثانية- والستون سنة سواء بالنسبة لما مضى، كلها مضت لا تستطيع أن تفرق بينها، فمساحتها واحدة في الذهن، لكن المؤمن الذي ينشد ما عند الله عز وجل، وعمل خيراً واستقام على عقيدة سليمة، ويرجو أن يبلغه الله عز وجل ليزداد خيراً في عمره؛ فإنه يأسف على ما فات، فإن كان ما فاته تفريط، فإنه يحاول أن يستدرك، وإن عمل خيراً فإنه يأمل من الله عز وجل أن يجزيه عليه خيراً.
يقول: وكم من جبال قد علت شرفاتها رجال فزالوا والجبال جبال هذا تصوير بديع يدل على قوة المعاناة عند هذا الرجل، ويدل أيضاً على صدق الرجعة عنده؛ لأنه رجع عن مواقفه السابقة.
فهو يصور الحق الذي يتمثل في الكتاب والسنة وما جاء الله به وما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم بالجبال، فهذه الجبال حاول رجال من الناس أن يقهروها، فارتقوها إما ليهدموها وإما ليزعزعوها وإما ليقهروها بأي نوع من أنواع القهر، وأخيراً زال الإنسان ومات وبقيت الجبال، فإما أن يكون قد عجز عن مصادمة الحقائق وبقي الحق حقاً، وإما أن يكون حاول أن يصل إلى نهاية الحقيقة ولم يصل.
فالجبال بمعنى الحق الذي لا يتزعزع ولا ينقلب، وهناك من حاول أن يشكك فيه،