للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حصول الشر في المادة بقطع الإعداد والإمداد وظهور حكمة الله تعالى في تفاوت المخلوقات في ذلك]

قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: لم تنقطع نسبته إليه خلقاً ومشيئة؟ قيل: هو من هذه الجهة ليس بشر، فإن وجوده هو المنسوب إليه، وهو من هذه الجهة ليس بشر، والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه، والعدم ليس بشيء حتى ينسب إلى من بيده الخير].

يعني: بذلك أن الشر والمعاصي من حيث خلقها وإيجادها ليست شراً؛ لأنها لحكمة وابتلاء للعباد، إنما الشر هو فعل المعاصي وفعل الممنوعات، أما خلقها فهو لحكمة، والحكمة ليست شراً، إنما هي خير.

قال رحمه الله تعالى: [فإن أردت مزيد إيضاح لذلك، فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة: الإيجاد، والإعداد، والإمداد].

الإيجاد: هو التقدير والخلق، والإعداد: إقدار العباد وإقدار الفاعلين على الفعل، والإمداد التيسير والإعانة والتوفيق.

قال رحمه الله تعالى: [فإيجاد هذا خير، وهو إلى الله، وكذلك إعداده وإمداده، فإذا لم يحدث فيه إعداد ولا إمداد حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إلى الفاعل وإنما إليه ضده.

فإن قيل: هلا أمده إذ أوجده؟ قيل: ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده، وإنما اقتضت إيجاده وترك إمداده، فإيجاده خير، والشر وقع من عدم إمداده.

فإن قيل: فهلا أمد الموجودات كلها؟ فهذا سؤال فاسد، يظن مورده أن التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة!].

هذا مذهب الفلاسفة، فالفلاسفة يرون أن التسوية ضرورية وأنها من اللوازم التي تلزم الله عز وجل، وانتقلت هذه الفلسفة إلى المعتزلة، وإلى كثير من أهل الكلام، ولذلك أنكروا حكمة الله عز وجل، وأنكروا الرحمة عن الرب سبحانه؛ لأنهم يرون أن الأفعال في الكون كلها لابد من أن تكون متساوية، ويرون أن مقتضى العدل فيها ألا يكون فيها خير وشر مطلقاً، وإن وجد الشر فمن أفعال العباد بذاتهم، فهم خالقون لها، فمن هنا ضلوا من حيث أرادوا أن ينزهوا الله، لكنهم وقعوا في شر مما هربوا منه.

قال رحمه الله تعالى: [وهذا عين الجهل، بل الحكمة كل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الذي بين الأشياء].

مبدأ التسوية -كما قلت- هو الذي جعل كثيراً من أهل الأهواء يغلطون في مسألة الحكم على الناس، ولعلي أكتفي بالإشارة بهذه المناسبة إلى ما وجد من أحكام باطلة من خلال هذه العقيدة الباطلة عبر نظرة سادت في الآونة الأخيرة عند كثير ممن يسمون بالمثقفين والمفكرين من المسلمين -مع الأسف- تبعاً لغيرهم من الفلاسفة ونحوهم من الذين الأصل عندهم هو الخلل في توحيد الله عز وجل.

أقول: هذا الفكر السائد المبني على هذه الفكرة الفلسفية يرى أنه لا فرق بين المسلم وغيره، وأنه لا يليق بالله عز وجل أن يعذب البشر، فمن هنا ظهرت مقولة في الآونة الأخيرة تقول: لا فرق بين المسلم واليهودي والنصراني، فكلهم يؤمنون بالله، إنما الفرق في عملهم، فمن كان طيباً متخلقاً محسناً إلى الناس فهو من أهل الجنة وإن كان يهودياً أو نصرانياً! فهذا ناتج عن مبدأ التسوية وعدم الإيمان بحكمة الله عز وجل وأن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وأنه هدى من شاء ووفقه ووعده الجنة فضلاً منه سبحانه، وتوعد الكفار بالنار عدلاً منه عز وجل، وأن ذلك كله راجع إلى حكمته.

إذاً: فمبدأ الحكمة لا يعترف به هؤلاء، بل ربما يعبرون عن الحكمة بالعدل فقط، فيقولون: ليس من الحكمة كذا، ويقصدون بذلك أنه: ليس من العدل؛ لأنهم يضعون مقاييس من عند أنفسهم فيفرضونها على الله عز وجل.

فلذلك قالت المعتزلة ونحوهم: يجب على الله أن يفعل كذا، ويجب عليه ألا يفعل كذا! بدون تورع وبلا خوف من الله عز وجل، يقولون: يجب على الله أن يفعل كذا، ويجب عليه ألا يفعل كذا، تعالى الله عما يزعمون.

فالمهم أن هذا الأصل كله ناتج عن عقيدة التسوية، والنظرة الخاطئة إلى مفهوم العدل المطلق.