للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حصول زيادة الإيمان بزيادة الشرائع والتكاليف]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما زيادة الإيمان من جهة الإجمال والتفصيل: فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله، ولا يجب على كل أحد من الإيمان المفصل مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ما يجب على من بلغه خبره، كما في حق النجاشي وأمثاله].

يعني بذلك أن الإيمان يزيد بزيادة الشرائع والتكاليف، وعلى هذا فإنه يزيد بزيادة العمل أيضاً، فكلما زاد عمل الإنسان بما أمر به، وزاد انتهاؤه عما نهي عنه؛ زاد إيمانه، كما أن الإيمان يزيد في أصل نشأته في تاريخ التشريع، بمعنى أن الإيمان في أول الأمر في العهد المكي كان المقصود به مجرد بعض الأمور المعرفية وبعض الأعمال، ثم زاد بتشريع الصلاة، ثم زاد بتشريع بقية أركان الإسلام، وتشريع الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدع بالدعوة، زاد من حيث الكم، بمعنى أن كل هذه تسمى إيماناً، كما أنه يزيد أيضاً بعمل الإنسان نفسه، فالإنسان كلما زاد امتثاله للأوامر الشرعية زاد إيمانه؛ لأن الإيمان يزيد بالأمور القلبية والأمور العملية.

قال رحمه الله تعالى: [وأما الزيادة بالعمل والتصديق المستلزم لعمل القلب والجوارح فهو أكمل من التصديق الذي لا يستلزمه، فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به، فإذا لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس المخبر كالمعاين)، وموسى عليه السلام لما أخبر أن قومه عبدوا العجل لم يلق الألواح، فلما رآهم قد عبدوه ألقاها، وليس ذلك لشك موسى في خبر الله، لكن المخبَر -وإن جزم بصدق المخبِر- فقد لا يتصور المخبَر به نفسه كما يتصوره إذا عاينه، كما قال إبراهيم الخليل صلوات الله عليه: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:٢٦٠]].

الإيمان يزيد بالأعمال فيما يتعلق بالجوارح، وكذلك يزيد بالأمور التي ترد إلى القلب فتزيد اليقين، ما يرد إلى القلب مما يزيد اليقين يعد زيادة في الإيمان، حتى وإن كان من الأمور التصديقية الخبرية.

قال رحمه الله تعالى: [وأيضاً: فمن وجب عليه الحج والزكاة -مثلاً- يجب عليه من الإيمان أن يعلم ما أمر به، ويؤمن بأن الله أوجب عليه ما لا يجب على غيره الإيمان به إلا مجملاً، وهذا يجب عليه فيه الإيمان المفصل.

وكذلك الرجل أول ما يسلم إنما يجب عليه الإقرار المجمل، ثم إذا جاء وقت الصلاة كان عليه أن يؤمن بوجوبها ويؤديها، فلم يتساو الناس فيما أمروا به من الإيمان.

ولا شك أن من قام بقلبه التصديق الجازم الذي لا يقوى على معارضته شهوة ولا شبهة لا تقع معه معصية، ولولا ما حصل له من الشهوة والشبهة أو إحداهما لما عصى؛ بل يشتغل قلبه ذلك الوقت بما يواقعه من المعصية فيغيب عنه التصديق والوعيد فيعصي، ولهذا -والله أعلم- قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) الحديث، فهو حين يزني يغيب عنه تصديقه بحرمة الزنا، وإن بقي أصل التصديق في قلبه، ثم يعاوده؛ فإن المتقين كما وصفهم الله بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:٢٠١].

قال ليث عن مجاهد: هو الرجل يهم بالذنب فيذكر الله فيدعه.

والشهوة والغضب مبدأ السيئات، فإذا أبصر رجع، ثم قال تعالى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:٢٠٢]، أي: وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي ثم لا يقصرون.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا الإنس تقصر عن السيئات، ولا الشياطين تمسك عنهم.

فإذا لم يبصر يبقى قلبه في عمى والشيطان يمده في غيه، وإن كان التصديق في قلبه لم يكذب، فذلك النور والإبصار وتلك الخشية والخوف تخرج من قلبه، وهذا كما أن الإنسان يغمض عينه فلا يرى وإن لم يكن أعمى، فكذلك القلب بما يغشاه من رين الذنوب لا يبصر الحق وإن لم يكن أعمى كعمى الكافر، وجاء هذا المعنى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا زنا العبد نزع منه الإيمان، فإن تاب أعيد إليه)].