وهنا تعليق على كلام الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، حيث يقول المعلق:[ذكره البيهقي في مناقب الشافعي وعلق عليه بقوله: إنما أراد الشافعي رحمه الله بهذا الكلام حفصاً وأمثاله من أهل البدع، وهذا مراده بكل ما حكي عنه في ذم الكلام وأهله، غير أن بعض الرواة أطلقه، وبعضهم قيده، وفي تقييد من قيده دليل على مراده، ثم نقل عن أبي الوليد بن الجارود قوله: دخل حفص الفرد على الشافعي وكلمه، ثم خرج الإمام الشافعي وقال لنا: لأن يلقى الله العبد بذنوب مثل جبال تهامة خير له من أن يلقاه باعتقاد حرف مما عليه هذا الرجل وأصحابه.
وكان يقول بخلق القرآن، ثم قال: وهذه الروايات تدل على مراده بما أطلق عنه فيما تقدم وفيما لم يذكر هاهنا، فكيف يكون كلام أهل السنة والجماعة مذموماً عنده وقد تكلم فيه وناظر من ناظره فيه وكشف عن تمويه من ألقى إلى سمع بعض أصحابه من أهل الأهواء شيئاً مما هم فيه].
هذا الكلام محتمل غير واضح؛ لأن بعض الأئمة يدخل في الكلام والمناظرات والجدال بالحق، وهذه مسألة لن نقف عندها كثيراً، وإن كان السياق يشعر بأن علم الكلام الذي عند الأشاعرة جائز، وأنه لا يقصده الشافعي، وهذا غير وارد لأمرين: الأمر الأول: أن الشافعي سبق هؤلاء المتكلمين، فالمتكلمون الذين نعنيهم ما ظهروا إلا في القرن الرابع الهجري وما بعده، والأوائل هم الجهمية والمعتزلة، وهم على طريقة واحدة في الأصول وإن اختلفوا في الجزئيات، فأصول الكلام عند متكلمة الأشاعرة والماتريدية هي أصول الكلام عند الجهمية والمعتزلة، إنما هناك اختلاف في التفصيلات وفي وجوه المسائل فقط.
فعلى هذا فإن ذم الشافعي لا شك في أنه ينصرف إلى علم الكلام جملة وتفصيلاً، وينصرف إلى اللاحقين والسابقين.
الأمر الثاني: أن الشافعي حينما تكلم تكلم بكلام مطلق في أكثر من موقف، تكلم عن حفص وعن غير حفص، ثم إنه بنفسه توقف عن مجادلتهم وهو يجادل باسم الحق، ونصح الناس بألا يجادلوهم، وموقفه هذا دليل على أن قصده علم الكلام مطلقاً.
ومع ذلك نحسن الظن بكلام البيهقي؛ لأن البيهقي ربما يدخل في الكلام مجادلة أهل الأهواء ومناظرتهم بالحق، فبعض أهل العلم فعلاً يجعل ذلك من الكلام الجائز؛ لكن نظراً لأنه اصطلاح تقرر في القرن الرابع وما بعده؛ فلابد من أن يحمل كلام الشافعي على الظاهر الكائن في وقته، أما بعد وقته فمن التعسف أن نجر كلامه عليه.
وليس بصحيح كلام الذين يزعمون أن الشافعي أو غيره ممن ذموا علم الكلام قد لا يقصدون هذا الكلام، مثل الذين قالوا: إن علم الكلام هو مذهب الأشاعرة سواء بسواء، أو قالوا بأن الأشاعرة والماتريدية مذهبهم مذهب فلان وفلان ممن سبقوهم، مع أن هذا المذهب لم يطرأ إلا بعد القرون الفاضلة، فلم يعرف مذهب الأشاعرة في الكلام ولا مذهب الماتريدية إلا في بداية القرن الرابع، فنسبة هذه المذاهب إلى من سبقوا في القرون الثلاثة الفاضلة مغالطة، بل جناية على أهل السنة وعلى أئمة الدين.