[وجوب اعتماد كلام الله ورسوله وترك آراء أهل الكلام وأصولهم]
قال رحمه الله تعالى: [ومن المحال ألا يحصل الشفاء والهدى والعلم واليقين من كتاب الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ويحصل من كلام هؤلاء المتحيرين].
يقصد بهم أهل الكلام؛ لأنه لا يزال الحديث عن المتكلمين، والمتكلمون هم الذي يخوضون في أسماء الله وصفاته وأفعاله وفي ذاته عز وجل، وفي مسائل العقيدة وسائر أمور الغيب والأخبار ونحوها، يتكلمون عنها بمجرد الظنون والأوهام والفلسفات والعقليات، ولا يلتزمون ما ورد في النصوص الشرعية.
قال رحمه الله تعالى: [بل الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل، ويتدبر معناه ويعقله، ويعرف برهانه ودليله، إما العقلي وإما الخبري السمعي، ويعرف دلالته على هذا وهذا، ويجعل أقوال الناس التي توافقه وتخالفه متشابهة مجملة، فيقال لأصحابها: هذه الألفاظ تحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما يوافق خبر الرسول صلى الله عليه وسلم قُبل، وإن أرادوا بها ما يخالفه رد.
وهذا مثل لفظ المركب والجسم والمتحيز والجوهر والجهة والحيز والعرض ونحو ذلك، فإن هذه الألفاظ لم تأت في الكتاب والسنة بالمعنى الذي يريده أهل هذا الاصطلاح، بل ولا في اللغة، بل هم يختصون بالتعبير بها عن معان لم يعبر غيرهم عنها بها، فتفسر تلك المعاني بعبارات أُخر، وينظر ما دل عليه القرآن من الأدلة العقلية والسمعية، وإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل.
مثال ذلك في التركيب، فقد صار له معان: أحدها: التركيب من متباينين فأكثر، ويسمى: تركيب مزج، كتركيب الحيوان من الطبائع الأربع والأعضاء ونحو ذلك].
الطبائع الأربع في عرف المتقدمين هي الرطوبة واليبوسة والحرارة والبرودة.
قال رحمه الله تعالى: [وهذا المعنى منفي عن الله سبحانه وتعالى، ولا يلزم من وصف الله تعالى بالعلو ونحوه من صفات الكمال أن يكون مركباً بهذا المعنى المذكور.
الثاني: تركيب الجوار، كمصراعي الباب ونحو ذلك، ولا يلزم أيضاً من ثبوت صفاته تعالى إثبات هذا التركيب.
الثالث: التركيب من الأجزاء المتماثلة، وتسمى: الجواهر المفردة.
الرابع: التركيب من الهولي والصورة، كالخاتم مثلاً، هيولاه الفضة وصورته معروفة].
الهيولى هنا المقصود بها المادة الأساسية الأولية للشيء في عرف الأولين، أو ما يسمى بالمادة الخام في عرفنا.
قال رحمه الله تعالى: [وأهل الكلام قالوا: إن الجسم يكون مركباً من الجواهر المفردة، ولهم كلام في ذلك يطول، ولا فائدة فيه، وهو أنه: هل يمكن التركيب من جزئين، أو من أربعة، أو من ستة، أو من ثمانية، أو ستة عشر؟ وليس هذا التركيب لازماً لثبوت صفاته تعالى وعلوه على خلقه.
والحق أن الجسم غير مركب من هذه الأشياء، وإنما قولهم مجرد دعوى، وهذا مبسوط في موضعه.
الخامس: التركيب من الذات والصفات، هذا سموه تركيباً لينفوا به صفات الرب تعالى، وهذا اصطلاح منهم لا يعرف في اللغة، ولا في استعمال الشارع، فلسنا نوافقهم على هذه التسمية ولا كرامة.
ولئن سموا إثبات الصفات تركيباً؛ فنقول لهم: العبرة للمعاني لا للألفاظ، سموه ما شئتم، فلا يترتب على التسمية بدون المعنى حكم، فلو اصطلح على تسمية اللبن خمراً؛ لم يحرم بهذه التسمية.
السادس: التركيب من الماهية ووجودها، وهذا يفرضه الذهن أنهما غيران، وأما في الخارج هل يمكن ذات مجردة عن وجودها، ووجودها مجرد عنها؟! هذا محال.
فترى أهل الكلام يقولون: هل ذات الرب وجوده أم غير وجوده؟! ولهم في ذلك خبط كثير، وأمثلهم طريقة رأي الوقف والشك في ذلك، وكم زال بالاستفسار والتفصيل كثير من الأضاليل والأباطيل.
وسبب الضلال الإعراض عن تدبر كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، والاشتغال بكلام اليونان والآراء المختلفة.
وإنما سمي هؤلاء أهل الكلام؛ لأنهم لم يفيدوا علماً لم يكن معروفاً، وإنما أتوا بزيادة كلام قد لا يفيد، وهو ما يضربونه من القياس لإيضاح ما علم بالحس، وإن كان هذا القياس وأمثاله ينتفع به في موضع آخر، ومع من ينكر الحس.
وكل من قال برأيه وذوقه وسياسته مع وجود النص، أو عارض النص بالمعقول؛ فقد ضاهى إبليس، حيث لم يسلم لأمر ربه، بل قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:١٢].
وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء:٨٠]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:٣١]، وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥]، أقسم سبحانه بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا نبيه ويرضوا بحكمه ويسلموا تسليماً].