للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[منهج السلف ومنهج المخالفين في التأليف]

قال رحمه الله تعالى: [وقد شرح هذه العقيدة غير واحد من العلماء، ولكن رأيت بعض الشارحين قد أصغى إلى أهل الكلام المذموم واستمد منهم وتكلم بعباراتهم].

الذين شرحوا الطحاوية أغلبهم من المتكلمين، ومن جملة أسباب ذلك أن أغلب شراح الطحاوية من الأحناف المتأخرين، وأغلب الأحناف المتأخرين من أهل الكلام من الأشاعرة والماتريدية وغيرهم، مع أن متقدمي الأحناف ابتداءً من أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والطحاوي كانوا من سلف الأمة وعلى هدي السلف.

وزخم كتب المتكلمين وكثرتها ليس فيما يتعلق بشرح الطحاوية فقط، بل في سائر العلوم، حتى التبس ذلك على كثير من المسلمين وجعلهم يختلط عليهم الأمر، فقد ابتليت الأمة بأن تعرض كثير من المتكلمين لشروح الكتب والتأليف والتصنيف، بل كانوا أحرص من غيرهم من أئمة الدين على التأليف والتصنيف؛ لأن من منهج السلف أنهم لا يكتبون إلا ما يدينون بأنه حق وأن فيه فائدة.

أما المتكلمون فإنهم يكتبون ما هب ودب، وقد يتكلم أحدهم عن الجزئية المتوهمة الخيالية في مجلدات على أنها حقيقة وأنها عقيدة، ككلامهم عن الأمور التي لم ترد في الكتاب والسنة، مثل كلامهم عن الجوهر والعرض والمباينة والمفاصلة والجسمانية والحركة والأعضاء والأدوات والجهات وغير ذلك من المعاني البدعية التي لم ترد في الكتاب والسنة، فنجد أنهم يكتبون في هذا مجلدات، وهذا جعل كتبهم أكثر من كتب السلف عدداً وزخماً، وابتلي بها المسلمون حتى ظن طائفة من الناشئين ومن شباب المسلمين أن هؤلاء هم على الحق وحدهم، وأنه لا يمكن أن يكون الحق مغموراً ومصنفات أهل السنة مغمورة، والعكس صحيح؛ فإن مؤلفات أهل السنة والجماعة قد تكون أقل نظراً لأنهم لا يكتبون إلا الحق، وأهل البدع كتبهم كثيرة، فلذلك كان أهل البدع أكثر تصنيفاً من أهل السنة وأقدم تصنيفاً، فلو نظرنا إلى أول من ألف في القرن الأول الهجري والثاني وأكثر من التأليف لوجدنا أنهم المعتزلة والجهمية والقدرية، وأما أهل السنة والجماعة فيقررون العقيدة بإيجاز ويقررون الدين بإيجاز ويقررون ما تحتاجه الأمة، ولا يكتبون الفلسفات، ولنعمل مقارنة واحدة بين كتب أهل البدع وكتب أهل السنة والجماعة، فأهل السنة والجماعة مع أنهم عنوا بجميع السنة المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح منها وغير الصحيح؛ نجد أن كتب الصحاح عندهم تعد مجلدات محدودة، في حين أنه عند الرافضة كتاب واحد من الكتب اللي يعتبرونها مصدراً من مصادر الدين -وهو بحار الأنوار- في مائة وعشرة مجلدات؛ لأنه كذب، والكذب سهل.

أما السلف فكانوا من المقلين، ولا يؤلفون إلا عند الحاجة، وإذا ألفوا كتبوا بالحق، والحق قليل؛ لأنه لو كثر الحق على الناس ما استوعبوه، فالله سبحانه وتعالى أنزل للبشر في نصوص الكتاب والسنة ما يكفي لمداركهم وما يصلح أحوالهم، وما زاد على ذلك من الفلسفات والخيالات والكذب والفجور فلا حاجة للناس إليه.

فمن هنا نعود ونقول: إن كثرة مصنفات أهل الكلام وأهل البدع ليست ظاهرة صحية، بل هي ظاهرة مرضية، وكثرتها الآن والاهتمام بطباعتها دليل على نشاط أصحاب البدع، وأنهم يكادون أن يكونوا أنشط من أهل السنة -مع الأسف- في إخراج تراثهم.

قال رحمه الله تعالى: [والسلف لم يكرهوا التكلم بالجوهر والجسم والعرض ونحو ذلك لمجرد كونه اصطلاحاً جديداً على معان صحيحة، كالاصطلاح على ألفاظ لعلوم صحيحة، ولا كرهوا -أيضاً- الدلالة على الحق والمحاجة لأهل الباطل، بل كرهوه لاشتماله على أمور كاذبة مخالفة للحق، ومن ذلك مخالفتها للكتاب والسنة، ولهذا لا تجد عند أهلها من اليقين والمعرفة ما عند عوام المؤمنين فضلا عن علمائهم.

ولاشتمال مقدماتهم على الحق والباطل كثر المراء والجدال، وانتشر القيل والقال، وتولد لهم عنها من الأقوال المخالفة للشرع الصحيح والعقل الصريح ما يضيق عنه المجال، وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قوله: (فمن رام علم ما حظر عنه علمه).

وقد أحببت أن أشرحها سالكاً طريق السلف في عباراتهم وأنسج على منوالهم متطفلاً عليهم لعلي أن أنظم في سلكهم وأدخل في عدادهم وأحشر في زمرتهم {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:٦٩]، ولما رأيت النفوس مائلة إلى الاختصار آثرته على التطويل والإسهاب {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:٨٨] وهو حسبنا ونعم الوكيل].