[الرد على مؤولي الاستواء بإثبات غنى الله عز وجل عن مخلوقاته]
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه).
أما قوله:(وهو مستغن عن العرش وما دونه)؛ فقال تعالى:{فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران:٩٧]، وقال تعالى:{وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[فاطر:١٥]، وإنما قال الشيخ رحمه الله هذا الكلام هنا لأنه لما ذكر العرش والكرسي ذكر بعد ذلك غناه سبحانه عن العرش وما دون العرش؛ ليبين أن خلقه للعرش واستواءه عليه ليس لحاجته إليه، بل له في ذلك حكمة اقتضته].
هذا من البدهيات، لكن السلف لما ظهرت الأهواء وظهر التأويل والتعطيل صاروا يقررون البدهيات ويحشدون لها الأدلة؛ لدفع شبه أهل الأهواء؛ ذلك أن أهل التعطيل وأهل التأويل الذين أنكروا استواء الله على عرشه وأولوا الاستواء وأولوا العرش وأولوا الكرسي؛ مستندهم في ذلك توهم يزعمون أنه شبهة، وهو زعمهم بأن الله عز وجل إذا كان مستوياً على عرشه فهذا يعني أنه محتاج له، فبين المؤلف -كما هو معلوم عقلاً وشرعاً- أن الله عز وجل لا يلزم من كونه مستوياً على عرشه أنه محتاج إلى العرش، بل هو سبحانه غني عن العالمين، وغني عن العرش، وكونه له كرسي لا يعني ذلك بالضرورة أن يكون للكرسي كيفية كالمعهود عند البشر، ولا يعني أنه محتاج إلى شيء من ذلك، فأثبت الغنى ليبين أن إثبات هذه الأمور على حقيقتها واجب شرعاً مع الجزم بأن الله عز وجل مستغن عنها، وأنه لا يلزم من إثبات هذه الأمور الحاجة إليها، لا سيما أنا نجد أن من أول ما ورد على المسلمين في تأويل أفعال الله وصفاته مسألة الاستواء، بل يذكر أن أول من أول الاستواء هو غيلان الدمشقي، فعلى هذا يكون قبل ظهور المؤولة الجهمية والمعتزلة، ومن هنا انفتح باب التأويل في جميع أفعال الله وصفاته، ثم شمل الأسماء.
إذاً: فإثبات الكرسي وإثبات العرش لله عز وجل وإثبات الاستواء لله سبحانه لا يعني ذلك أبداً أنه محتاج إلى شيء من ذلك، فهو سبحانه الغني، ولا حاجة به إلى أحد من خلقه، وهذه الأمور التي ذكرها الله عز وجل من مخلوقاته لابد من إثباتها كما جاءت من غير تأويل، وما ينقدح في الذهن من شبهات أخرى تتعلق بالحاجة ونحوها؛ كل ذلك منفي قطعاً بدلالة العقل السليم والفطرة، وقبل ذلك بدلالة الشرع.
قال رحمه الله تعالى:[وكون العالي فوق السافل لا يلزم أن يكون السافل حاوياً محيطا به حاملاً له، ولا أن يكون الأعلى مفتقراً إليه، فانظر إلى السماء كيف هي فوق الأرض وليست مفتقرة إليها، فالرب تعالى أعظم شأناً وأجل من أن يلزم من علوه ذلك، بل لوازم علوه من خصائصه، وهي حمله بقدرته للسافل، وفقر السافل، وغناه هو سبحانه عن السافل، وإحاطته عز وجل به، فهو فوق العرش مع حمله بقدرته للعرش وحملته، وغناه عن العرش، وفقر العرش إليه، وإحاطته بالعرش، وعدم إحاطة العرش به، وحصره للعرش، وعدم حصر العرش له، وهذه اللوازم منتفية عن المخلوق.
ونفاة العلو أهل التعطيل لو فصلوا هذا التفصيل لهدوا إلى سواء السبيل، وعلموا مطابقة العقل للتنزيل، ولسلكوا خلف الدليل، ولكن فارقوا الدليل فضلوا عن سواء السبيل].