للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أنواع الشفاعة من حيث الجواز والمنع في الدنيا والآخرة]

أما من حيث أحكامها في الدنيا والآخرة؛ فللشفاعات في الدنيا أحكام، وللشفاعات في الآخرة أحكام.

أما الشفاعات في الدنيا فمنها ما هو جائز ومنها ما هو ممنوع.

فأما الجائز منها فأوله ما يتعلق بشفاعة الناس في دنياهم فيما يتعلق بنفع بعضهم لبعض بما يقدرون عليه، ومنه ما يسمى عند الناس بالوساطة، فهذا أمر جائز إذا لم يكن فيه ظلم ولا تجاوز لحدود الشرع، ولا تحريم حلال ولا تحليل حرام، فإذا وافق الشرع فهو جائز، بل إنه من أبواب الحسبة، ومن الأمور التي يلتمس فيها الأجر من الله عز وجل؛ لأنها نفع للناس ونفع الناس من أعظم أبواب الخير.

وهذه المسألة تسمى شفاعة تجوزاً، ولا تدخل في الشفاعة الشرعية المعنية بالكتاب والسنة، فليست من الشفاعة الدينية التي تتعلق بمصائر العباد يوم القيامة، أو بأمورهم الغيبية.

أما الشفاعة الشرعية المتعلقة بمصائر العباد فإن منها ما هو جائز، ومن صوره الاستشفاع بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في الحياة، وهذا يدخل في التوسل، فهو إلى معنى التوسل أقرب، لكن تجوز بعض أهل العلم في تسميته شفاعة، كما أن أهل الأهواء سموه شفاعة وأدخلوا فيه شفاعة الآخرة، بمعنى أنهم خلطوا بين الشفاعة الجائزة في الدنيا وتوسعوا فيها حتى أدخلوا فيها الشفاعات الممنوعة في الدنيا والممنوعة في الآخرة، فمن هنا سمي هذا النوع من التوسل شفاعة، أي: التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في الحياة، والمقصود به التوسل بدعائه، وقد يسمي بعض الناس التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم توسلاً أو شفاعة، وهذا فيه تجوز، وفيه أيضاً خروج عن الحد الشرعي لمعنى الشفاعة ومعنى التوسل، وفرق بين التوسل والتبرك، فبينهما وجوه اقتران ووجوه اختلاف، لكن التبرك بمعناه الواسع الذي يفهم عند الناس الآن يدخل فيه كثير من الصور التي تعمل اليوم، وأما التبرك الشرعي فأكثر الصور التي تعمل الآن لا تدخل فيه، فالمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يجوز الاستشفاع به في حياته، بمعنى: طلب الدعاء منه، وهذا حدث كثيراً من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك دعاؤه للأعمى، ودعاؤه صلى الله عليه وسلم لكثير من الصحابة، ودعاؤه لأمته، ودعاؤه لأصناف من الخلق.

ومسألة التبرك سيأتي الكلام عنها، وبمناسبتها نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يشرع التبرك بذاته وبأشيائه المباشرة في حياته، لكن بعد مماته لا يجوز التبرك بما انقطع من آثاره، وآثاره كلها انقطعت.

الصورة الثانية من الشفاعات الشرعية الجائزة في الدنيا: الاستشفاع بدعاء الرجل الصالح أو نحوه، بمعنى أنه يجوز أن تقول لغيرك: ادع الله لي، لكن بشرط ألا يكون ذلك على جهة الاعتماد على دعائه، وأن يكون لمناسبة، بمعنى أن لا يكثر منه الإنسان، فإذا أكثر منه اتكل على غير الله، وترك السبب المباشر، وهو اتخاذ الوسيلة إلى الله عز وجل بعبادته ودعائه التي هي أوجب الواجبات على كل أحد، لكن إذا جاء لذلك مناسبة فإنه يشرع للإنسان أن يطلب من غيره من الصالحين ومن المؤمنين ومن المسلمين أن يدعوا له إذا اقتضى الحال ذلك، كأن يكون المقام مقام ضرورة، أو لمكان فاضل أو لزمان فاضل أو نحو ذلك.

ومن صوره التي هي أعم من ذلك كله الاستشفاع بالحي فيما يقدر عليه، وبعض هذه الأمور تدخل في باب الشفاعة، وبعضها يدخل في باب الوسيلة أو التوسل، وبعضها يدخل في باب الحوائج العادية التي ليست من أمور العبادة.

وعلى هذا فالاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته انقطع، والاستشفاع بالمسلمين وبالمؤمنين وبالرجال الصالحين بعد وفاتهم -أو فيما لا يقدرون عليه- ممنوع، وكذلك الاستشفاع بأي أحد من الخلق حياً أو ميتاً فيما لا يقدر عليه، فهو من الشفاعة الممنوعة.

ويدخل في الشفاعات الممنوعة في الدنيا الاستشفاع بالأحجار والأشجار وغيرها، فإنها لا تشفع في الدنيا ولا في الآخرة، حتى الذين يعلقون الاستشفاع بهذه الأشياء على الآخرة -بمعنى أنهم يقولون: نستشفع بها الآن لتشفع لنا يوم القيامة- فإنهم بذلك يقعون في الشرك.

أما الشفاعة في الآخرة فإن منها الجائز، ومنها الممنوع.

أما الشفاعة الجائزة فهي التي تتوافر شروطها كما ورد في كتب أهل السنة، وهي: أولاً: أن تكون الشفاعة عند الله عز وجل، وهو سبحانه الذي يشفع عنده الشافعون.

ثانياً: أن تكون الشفاعة بعد إذن الله عز وجل، كما قال عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:٢٥٥].

ثالثاً: رضا الله عز وجل عن الشافع وعن المشفوع له، وعلى هذا فالكافر لا يشفع؛ لأن من لا يرضى الله عنه لا يشفع، وكذلك الكافر لا يُشفع له ولا يأذن الله بالشفاعة له؛ لأن الله عز وجل بعدما وصف الكافرين بصفاتهم الرئيسة، وهي أنهم لا يقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة ولا يؤمنون باليوم الآخر؛ قال سبحانه: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:٤٨]، والمقصود أن الشافعين الذين تتوهم شفاعتهم لا يشفعون لهم، وكذلك الذين رضي الله عنهم لا تنفع شفاعتهم لهؤلاء الكافرين، ولذلك ل