[مفهوم الاستطاعة]
قال رحمه الله تعالى: [والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يوصف المخلوق به تكون مع الفعل.
وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكين وسلامة الآلات فهي قبل الفعل وبها يتعلق الخطاب، وهو كما قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦]].
المقصود بموضوع الاستطاعة هنا القدرة التي أقدر الله بها العباد المكلفين على الفعل، ولها ارتباط بالإرادة والمشيئة والقدر عموماً، فالاستطاعة هي قدرة المكلف على فعل الشيء الذي أقدره الله على فعله.
وموضوع الاستطاعة من الموضوعات التي ابتدع فيها أهل الأهواء من المعتزلة والجهمية الكلام، ثم صارت من أصول أهل الكلام الأشاعرة والماتريدية، واشتهرت باسم الكسب عند الأشاعرة؛ نظراً لأن الأشعري يرى أن استطاعة العباد على أفعالهم التي يقدرهم الله عليها تأتيهم عن طريق الكسب، لا القدرة الكاملة على الفعل، بمعنى: أنه يرى أن الإنسان المكلف ليس في الأصل قادراً على الفعل، إلا عند العزم والشروع بالفعل، حتى وإن كان يملك جميع القدرة والوسائل، كالمشي مثلاً قدرة يتم بالاستطاعة، فيقول: إن الإنسان الذي يقدر على المشي أعطاه الله عز وجل وسيلة وهي الرجلين، ولا يمكن أن نسميه مستطيعاً على المشي إلا إذا عزم على الفعل، فإذا عزم وأنشأ التحرك أقدره الله، أو في تلك اللحظة التي عزم فيها أوجد الله عز وجل له الاستطاعة.
وهذه فلسفة فيها شيء من الغموض واللبس من ناحية، ومن ناحية أخرى ليس لها أصل في الشرع، نحن نعلم أن الله عز وجل جعل للعباد قدرات فيما يقدرون عليه، وجعل لهم وسائل وهي الجوارح، والقدرات موجودة قبل الفعل وبعده، لكنها لا تتمثل لنا بفعل حقيقي إلا عند الفعل الحقيقي.
فالإنسان المتكلم الذي يملك القدرة على الكلام نسميه متكلماً وقادراً على الكلام، حتى وإن لم يتكلم، والقدرة على الكلام موجودة عنده، لكن قد لا يعزم على الكلام فيسكت، وحينما سكت لا يعني أنه غير قادر أو غير مستطيع على الكلام.
وكذلك بعد الفعل، فالمسألة فيها نوع من التفلسف عند أهل الكلام، خاصة الأشعري ومن جاء بعده، حيث زعم أن الاستطاعة على الفعل لا تكون إلا أثناء الشروع فقط، وكأن الإنسان يصادفها مصادفة أو يكسبها كسباً، كالإنسان الذي يبحث عن شيء مفقود، فإنه لا يتهيأ له -حسب رأيهم- أن يكون وجد هذا الشيء إلا عندما يقع عليه، ومثلوا بالقدرة أو بالاستطاعة على الشيء المفقود، فإنه لا يمكن أن يكون وجد الشيء إلا أثناء التمكن منه، وهذا القياس غير صحيح، فلذلك عدت مسألة الاستطاعة والكسب عند الأشعري من المعضلات التي لا يمكن تفسيرها تفسيراً صحيحاً.
المهم أن السلف يرون أن الله عز وجل أقدر العباد المكلفين على الأفعال، التي عندهم وسيلة إليها قبل الفعل وبعد الفعل وأثناء الفعل، وأنهم بذلك مكلفون، لكن قد يهيئ الله عز وجل لبعض العباد أن يفعل، وقد لا يهيئ الله عز وجل لبعض العباد أن يفعل.
فتأتي مسألة الهداية والإضلال والتوفيق والخذلان متفرعة من مسألة الاستطاعة، وسيأتي الحديث عنها بعد قليل.
قال رحمه الله تعالى: [الاستطاعة والطاقة والقدرة والوسع ألفاظ متقاربة، وتنقسم الاستطاعة إلى قسمين كما ذكره الشيخ رحمه الله، وهو قول عامة أهل السنة، وهو الوسط].
القسم الأول: أن الاستطاعة قوة كاملة في الإنسان القادر المكلف موجودة قبل الفعل.
القسم الثاني: أنها موجودة أيضاً أثناء الفعل، والإنسان ليس مجبوراً، فالإنسان قادر على أن يفعل أو لا يفعل في الأمور الاختيارية، فقادر أن يفعل، وهذه قدرة ثابتة للفعل، ثم تلحق إذا أنشأ الفعل، وقادر ألا يفعل أيضاً.
إذاً: المقصود بالقسم الأول: القدرة الكاملة في الإنسان.
والقسم الثاني: القدرة التي تتهيأ للإنسان أثناء الشروع في الفعل.
قال رحمه الله تعالى: [وقالت القدرية والمعتزلة: لا تكون القدرة إلا قبل الفعل.
وقابلهم طائفة من أهل السنة فقالوا: لا تكون إلا مع الفعل.
والذي قاله عامة أهل السنة: إن للعبد قدرة هي مناط الأمر والنهي، وهذه قد تكون قبله، لا يجب أن تكون معه].
يعني: جعل الله عز وجل القدرة التي أعطاها العباد سبباً للتكليف، ولذلك الإنسان الذي لا يستطيع أن يفعل شيئاً من الأمور التي أمر بها، فإنه لا يحاسب، وغير مكلف بها، ورفع الله الحرج عن غير المستطيع، لكن الاستطاعة هي مناط التكليف، يعني: أن الله عز وجل جعل للعباد قدرات وقوى كاملة فيهم، هي الوسيلة لفعل ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه.