[مدلول الاشتراك اللفظي وصلته بالأعيان الخارجية]
قال رحمه الله تعالى: [وطائفة ظنت أن لفظ (الوجود) يقال بالاشتراك اللفظي، وكابروا عقولهم، فإن هذه الأسماء عامة قابلة للتقسيم، كما يقال: الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، وقديم وحادث.
ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام، واللفظ المشترك كلفظ (المشتري) الواقع على المبتاع والكوكب، لا ينقسم معناه، ولكن يقال: لفظ (المشتري) يقال: على كذا أو على كذا، ومثال هذه المقالات التي قد بسط الكلام عليها في موضعه.
وأصل الخطأ والغلط: توهمهم أن هذه الأسماء العامة الكلية يكون مسماها المطلق الكلي هو بعينه ثابتاً في هذا المعين وهذا المعين، وليس كذلك، فإن ما يوجد في الخارج لا يوجد مطلقا كلياً، بل لا يوجد إلا معيناً مختصاً، وهذه الأسماء إذا سمي الله بها كان مسماها مختصاً به، فإذا سمي بها العبد كان مسماها مختصاً به.
فوجود الله وحياته لا يشاركه فيها غيره، بل وجود هذا الموجود المعين لا يشركه فيها غيره، فكيف بوجود الخالق؟ ألا ترى أنك تقول: هذا هو ذاك، فالمشار إليه واحد لكن بوجهين مختلفين.
وبهذا ومثله يتبين لك أن المشبهة أخذوا هذا المعنى وزادوا فيه على الحق فضلوا، وأن المعطلة أخذوا نفي المماثلة بوجه من الوجوه وزادوا فيه على الحق حتى ضلوا، وأن كتاب الله دل على الحق المحض الذي تعقله العقول السليمة الصحيحة، وهو الحق المعتدل الذي لا انحراف فيه.
فالنفاة أحسنوا في تنزيه الخالق سبحانه عن التشبيه بشيء من خلقه، ولكن أساءوا في نفي المعاني الثابتة لله تعالى في نفس الأمر، والمشبهة أحسنوا في إثبات الصفات، ولكن أساءوا بزيادة التشبيه.
واعلم أن المخاطب لا يفهم المعاني المعبر عنها باللفظ إلا أن يعرف عينها أو ما يناسب عينها، ويكون بينها قدر مشترك ومشابهة في أصل المعنى، وإلا فلا يمكن تفهم المخاطبين بدون هذا قط، حتى في أول تعليم معاني الكلام بتعليم معاني الألفاظ المفردة، مثل تربية الصبي الذي يعلم البيان واللغة، ينطق له بلفظ المفرد له ويشار له إلى معناه إن كان مشهودا بالإحساس الظاهر أو الباطن، فيقال له: لبن، خبز، أم، أب، سماء، أرض، شمس، قمر، ماء، ويشار له مع العبارة إلى كل مسمى من هذه المسميات، وإلا لم يفهم معنى اللفظ ومراد الناطق به، وليس أحد من بني آدم يستغني عن التعليم السمعي، كيف وآدم أبو البشر أول ما علمه الله تعالى أصول الأدلة السمعية وهي الأسماء كلها، وكلمه وعلمه بخطاب الوحي ما لم يعلمه بمجرد العقل.
فدلالة اللفظ على المعنى هي بواسطة دلالته على ما عناه المتكلم وأراده، وإرادته وعنايته في قلبه، ولا يعرف باللفظ ابتداء، ولكن لا يعرف المعنى بغير اللفظ حتى يعلم أولا أن هذا المعنى المراد هو الذي يراد بذلك اللفظ ويعنى به، فإذا عرف ذلك ثم سمع اللفظ مرة ثانية، عرف المعنى المراد بلا إشارة إليه، وإن كانت الإشارة إلى ما يحس بالباطن، مثل الجوع والشبع والري والعطش والحزن والفرح، فإنه لا يعرف اسم ذلك حتى يجده من نفسه، فإذا وجده استنزله إليه، وعرف أن اسمه كذا، والإشارة تارة تكون إلى جوع نفسه أو عطش نفسه، مثل أن يراه أنه قد جاع فيقول له: جعت، أنت جائع، فيسمع اللفظ ويعلم ما عينه بالإشارة أو ما يجري مجراها من القرائن التي تعين المراد، مثل نظر أمه إليه في حال جوعه وإدراكه بنظرها أو نحوه أنها تعني جوعه، أو يسمعهم يعبرون بذلك عن جوع غيره.
وإذا عرف ذلك فالمخاطب المتكلم إذا أراد بيان معان، فلا يخلو إما أن يكون مما أدركها المخاطب المستمع بإحساسه وشهوده، أو بمعقوله، وإما أن لا يكون كذلك.
فإن كانت من القسمين الأولين لم تحتج إلا إلى معرفة اللغة، بأن يكون قد عرف معاني الألفاظ المفردة ومعنى التركيب، فإذا قيل له بعد ذلك: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد:٨ - ٩]، أو قيل له: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:٧٨]، ونحو ذلك، فهم المخاطب بما أدركه بحسه.
وإن كانت المعاني التي يراد تعريفه بها ليست مما أحسه وشهده بعينه، ولا بحيث صار له معقول كلي يتناولها حتى يفهم به المراد بتلك الألفاظ، بل هي مما لا يدركه بشيء من حواسه الباطنة والظاهرة، فلا بد في تعريفه من طريق القياس والتمثيل والاعتبار بما بينه وبين معقولات الأمور التي شاهدها من التشابه والتناسب، وكلما كان التمثيل أقوى، كان البيان أحسن، والفهم أكمل.
فالرسول صلوات الله وسلامه عليه لما بين لنا أموراً لم تكن معروفة قبل ذلك، وليس في لغتهم لفظ يدل عليها بعينها، أتى بألفاظ تناسب معانيها تلك المعاني، وجعلها أسماء لها، فيكون بينها قدر مشترك، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والإيمان، والكفر، وكذلك لما خبرنا بأمور تتعلق بالإيمان بالله واليوم الآخر، وهم لم يكونوا يعرفونها قبل ذلك حتى يكون لهم ألفاظ تدل عليها بعينها، أخذ من اللغة الألفاظ المناسبة لتلك بما تدل عليه من