قال رحمه الله تعالى:[ولم يعرف عن أحد من الطوائف أنه قال: إن العالم له صانعان متماثلان في الصفات والأفعال.
فإن الثنوية من المجوس، والمانوية القائلين بالأصلين النور والظلمة، وأن العالم صدر عنهما؛ متفقون على أن النور خير من الظلمة، وهو الإله المحمود، وأن الظلمة شريرة مذمومة، وهم متنازعون في الظلمة: هل هي قديمة أو محدثة؟ فلم يثبتوا ربين متماثلين].
يقصد بهذا أن المجوس الذين اعتقدوا بوجود إلهين اثنين ما قالوا بأن الإلهين كلاهما خالق، بل قالوا: الخالق واحد، والأول واحد، وألهوا الشر نظراً لخطورة الشر، فألهوا الشيطان أو إله الشر كما زعموا؛ نظراً لخطورة الشر وخوفاً منه، فيعبدون إله الخير طمعاً في ثوابه بزعمهم، ويعبدون إله الشر خوفاً من عقابه بزعمهم، وهذه شبهة الشيطان إلى يومنا، فمن أعظم شبهات الشيطان أنه يأخذ البشر بالخوف والرجاء، فإذا رجوا أحداً من دون الله عبدوه، وإذا خافوا من أحد من دون الله عبدوه، وعلى ذلك أغلب أهل الأهواء الذين يصرفون شيئاً من أنواع العبادة لغير الله، وينزعون في ذلك نزعة الرجاء الخالص لغير الله، أو الخوف من غير الله، ولا يزال الناس يتعبدون لغير الله رجاءً وخوفاً وهم لا يشعرون، وليس من شرط العبادة كونها كعبادة الصنم في التوجه بالطقوس، بل من العبادة الاستجابة فيما لا تجوز الاستجابة فيه لغير الله، أو الخوف من غير الله إلى حد الهلع الذي يضر بدين المسلم أو يضر بالمسلمين، فهو نوع من عبادة الخوف من غير الله، بل عبادة بالخوف.
فالمجوس تقوم فلسفتهم في عبادة الإلهين الاثنين على أساس أن إله الخير هو الأصل، لكنه منزه عن أن يخلق الشر، فعلى هذا لا بد عندهم من أن يكون للشر خالق، فقالوا: خالق الشر هو إبليس، أو قوى شريرة أخرى، وخالق الشر لا بد من أن يعبد خوفاً منه، فعبدوا إلهين اثنين.
فالشارح يقول: مع أنهم عبدوا إلهين اثنين وهم من المشركين ما قالوا بأن كلاً منهما خالق للكون ومبدئ ومصور، بل قالوا: الأول الخالق المبدئ الذي خلق الخلق ابتداء هو واحد، والآخر جاء بعد، فلذلك عندهم فلسفة أنه عندما تنتهي الدنيا ينتصر الخير على الشر، وتكون الإلهية لواحد، وعلى كل حال هذه فلسفة مشركين، ومن الخير ألا نخوض فيها، لكن نظراً لأنها وردت كان لا بد من الإشارة إليها وإلى معناها.